Site icon IMLebanon

“هيئة الشراء العام”: عنوان جديد للمحاصصة؟

كتب إيلي الفرزلي في صحيفة “الأخبار”:

الأولوية في مجلس النواب اليوم هي لإنجاز قانون الشراء العام. اللجنة المعنيّة تعقد اجتماعات مكثفة لإنجاز القانون المطلوب دولياً. الجديد أن هيئة مستقلة ستتولى المسؤولية. ذلك يفتح باباً للقلق من تحولها إلى هيئة ناظمة جديدة خاضعة للمحسوبيات والمصالح والمحاصصة السياسية.

واحد من مطالب المجتمع الدولي، ولا سيما الفرنسيين، هو إقرار قانون الشراء العام، الذي يُفترض أن يُنهي مرحلة التفلّت والفوضى في عقد الصفقات العمومية. ونظراً لأولوية هذا القانون، وحدها اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان النيابية المشتركة المعنية بمناقشته تكسر الصمت الذي يلفّ أروقة مجلس النواب. اللجان الأخرى لا تنعقد، ومكاتب النواب مقفلة بسبب كورونا، وبسبب الضرر الذي لحق بالمجلس جراء انفجار المرفأ. تلك اللجنة، التي يترأسها النائب ياسين جابر، تعقد اجتماعين أسبوعياً، في سعي منها لإنجاز الاقتراح الذي أعدّه المعهد المالي (معهد باسل فليحان) بعد تكليفه في ٤ آذار ٢٠١٩ من قبل وزير المالية. الاقتراح نتاج مسار طويل من الالتزامات الحكومية تجاه الضغوط الدولية التي أنتجت عشرات ورش العمل. فقد سبق أن التزمت حكومة الرئيس سعد الحريري في بيانها الوزاري (7 شباط 2019) بـ«تحديث قانون المشتريات العامة وإعداد دفاتر الشروط النموذجية لتعزيز شفافية المناقصات العامة»، ثم عادت والتزمت به حكومة حسان دياب، كما وُضع على جدول الخطة الإصلاحية التي أقرتها.

العين الدولية تركّز على الشراء العام انطلاقاً من كونه الأداة الرئيسية لإنفاق المال العام الذي يقدّر حجمه، بحسب وزارة المالية، بـ13% من الموازنة العامة و4% من الناتج المحلي الإجمالي (نحو 2 مليار دولار). علماً أن هذا التقدير لا يتضمن حجم مشتريات المؤسسات العامة والبلديات والمشاريع المموّلة من الخارج. بحسب تقديرات الوزارة، فإن تحديث منظومة الشراء العام من شأنه أن يُحقّق وفراً سنوياً بقيمة 500 مليون دولار. ذلك مبلغ، يوضّح أنه لم يعد بالإمكان العمل من دون نظام مركزي للمناقصات، يُنهي حالة التفلّت المستمرة. لكن مقابل اقتناع جميع الكتل بحتمية تحديث عملية الشراء العام، تؤكد المناقشات التي تشهدها اللجنة النيابية أن البعض لا يزال يسعى إلى إقحام السياسة والمحاصصة في العملية.
يوم الثلاثاء وصل النقاش إلى الفصل السادس (المادة ٧٤)، المتعلّق بحوكمة الشراء العام. المفاجأة كانت في تعديل الكيان القانوني المعني. فبعد أن كانت النسخ الأولى من الاقتراح تشير إلى «إدارة الشراء العام»، رست النسخة الأخيرة على «هيئة الشراء العام». ذلك تعديل، لم يتلقّفه كثر في اللجنة، انطلاقاً من التجربة السيئة للهيئات الموجودة حالياً، والتي تنعم نظرياً بالاستقلالية عن الإدارة الرسمية، فيما تتحكم عملياً السياسة والمحاصصة بكل تفصيل فيها، بما يحوّلها إلى هيئات استشارية أعضاؤها موزّعون على الطوائف ومتحرّرون من الضوابط الإدارية. المحاصصة تتعزّز أيضاً في طريقة تعيين رئيس وأعضاء الهيئة (عضوان إضافة إلى عضو رديف). التعيين لا يتم بحسب نظام الموظفين، بل عبر مجلس الوزراء. الرئيس يُعيّن بعد اقتراح من رئيس مجلس الوزراء الذي يفترض أن يستطلع رأي مجلس الخدمة المدنية، على أن يكون متفرغاً لأداء مهامه. فيما الأعضاء تتم تسميتهم من قِبل وزراء المالية والاقتصاد والعدل. وزير المالية يسمّي موظفاً من الفئة الثانية تابعاً لوزارته، يتولى إبداء ملاحظات الوزارة عندما تبرر ذلك مقتضيات الحفاظ على المال العام. وزير الاقتصاد يسمي أحد موظفي الوزارة المختصين. ووزير العدل يسمّي قاضياً من القضاة الإداريين أو العدليين من أصحاب الاختصاص في مجال الشراء العام.
تحميل هذه المسؤولية للوزراء الثلاثة لا يبرره أحد النواب سوى بالتوزيع الطائفي المخفي. علماً أن المبدأ نفسه مرفوض لأسباب تقنية أيضاً. فممثّلا وزارتي المال والاقتصاد سيكون من ضمن عملهما الإشراف على مناقصات وزارتيهما، أضف أن الدور الطبيعي لممثل وزارة المال يُفترض أن يكون في لجان التلزيم وليس في هيئة الإدارة. بالنسبة إلى وجود قاضٍ في الهيئة، فذلك يضيء على مسألة انتداب القضاة للعمل في الوزارات، مع ما خلّفه هذا الإجراء من حياد للقضاة عن دورهم وتحوّلهم إلى مخرجين لحلول «قانونية» تسعف الوزراء في الالتفاف على القوانين. علماً أن هذا التعيين يتعارض مع مبدأ قابلية كل القرارات الإدارية للهيئة للطعن أمام مجلس شورى الدولة.

توحيد نظام المناقصات: فرصة لتوفير 500 مليون دولار
تلك أمور لم تُحسم بعد في اللجنة النيابية حيث يُفترض أن تستكمل مناقشتها في جلسة لاحقة. إلا أن أحد أعضاء اللجنة يشير إلى أن طريقة التعيين تحتّم تأثّر الهيئة وأعضائها بالسياسة، داعياً إلى اعتماد خيارات أكثر شفافية ومنطقية في التعيين. علماً أن النائب نفسه يعود ويشير إلى أن أي طريقة تعيين ستدخل السياسة فيها، لأن المشكلة ليست في القوانين أو الأنظمة بل بالعقلية السائدة، والتي ستتمكن من إدخال الهيئة في المحاصصة، بغضّ النظر عن الآليات المتّبعة للعمل.
بالنتيجة، وبغض النظر عن الآلية، فإن هيئة الشراء العام سترث إدارة المناقصات، وستتمتع بالاستقلال المالي والإداري، إلا أن أحداً لم يتطرق إلى استقلاليتها الوظيفية. وهي لن تكون معنيّة بإجراء المناقصات، لأن إجراء مناقصات كل الجهات المستفيدة من المال العام (ما عدا الأمنية) سيكون عملاً ضخماً، لذلك، كان الخيار بإشرافها على كل صفقات الشراء العام، والاعتراض على القرارات المرتبطة بها، بغضّ النظر عن الجهة التي تُجري المناقصة (إدارات عامة، مؤسسات، وهيئات عامة، بلديات وجمعيات تستفيد من المال العام). الهيئة ستكون خاضعة للنظام العام للمؤسسات العامة، غير أنها ستخضع أيضاً لرقابة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي.
رئيس الهيئة يتقاضى تعويضاً شهرياً مقطوعاً يحدّد بمرسوم في مجلس الوزراء، فيما لم يُشِر الاقتراح إلى حصول الأعضاء على تعويض. وفيما من الطبيعي أن تكون للهيئة موازنة مستقلة ضمن الموازنة العامة للدولة، فإنّ الاقتراح يشير إلى أن الموازنة ليست المورد المالي الوحيد لها، بل يحق لها الحصول على المنح والهبات والتبرعات غير المشروطة! ذلك أمر يفتح باباً إضافياً للفوضى، فيما يفترض أن تكون موازنتها محصورة بالدولة.
من مهام الهيئة اقتراح السياسات العامة المتعلقة بالشراء العام، جمع خطط الشراء السنوية الواردة من الجهات الشارية وفق نموذج موحّد يصدر عنها وتبويبها ونشرها وفق الأصول على المنصة الإلكترونية المركزية لها، نشر جميع الإعلانات والإشعارات المتعلّقة بالمشتريات وبإجراءات التأهيل والتلزيم وفق الأصول، وضع وتيويم لائحة اللوازم والخدمات والأشغال البسيطة التي يتم شراؤها بطريقة مركزية كالتي تتعلق باللوازم المكتبية والقرطاسية والمواد الاستهلاكية وخدمات التنظيف وغيرها.