كتب محمد شقير في “الشرق الأوسط”:
قالت مصادر سياسية مواكبة للعراقيل التي تؤخر تشكيل الحكومة الجديدة، برئاسة السفير مصطفى أديب، إن موافقة الأطراف المعنية بتشكيلها على التمديد الثاني للمهلة الزمنية التي حددها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لولادتها، وبناء على طلب الأخير، لا يعني أن الطريق أصبحت آمنة سالكة سياسياً أمام إنقاذ المبادرة الفرنسية، وقطع الطريق على إقحامها في الرمال اللبنانية المتحركة، وتعطيل مهمتها لوقف الانهيار المالي والاقتصادي.
ولفتت المصادر السياسية لـ«الشرق الأوسط» إلى أن عدم تحديد موعد لانتهاء مهلة التمديد الثاني الأربعاء المقبل، بناء على طلب من ماكرون، يعود إلى أن الدستور اللبناني لا يُلزم الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة في تاريخ معين، وبالتالي فإنها ستبقى مفتوحة لأيام معدودة، رغم أن الرئيس أديب أعلن بعد اجتماعه برئيس الجمهورية ميشال عون أن تريُّثه لن يكون طويلاً، وإنما لوقت قصير.
وأكدت أن العقدة التي أدت إلى تأخير ولادة الحكومة، على خلفية إصرار «الثنائي الشيعي» على الاحتفاظ بوزارة المالية وتسمية الوزراء الشيعة، لم تكن قائمة، ويمكن التوافق على مخرج لإخراجها من التجاذبات السياسية وتسجيل المواقف، وإنما استجدت في أعقاب العقوبات الأميركية المفروضة على المعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي نبيه بري، النائب علي حسن خليل، الذي يشكل ذراعه اليمنى في التواصل مع القوى السياسية وكاتم أسراره.
ورأت أن العقوبات كانت وراء ارتفاع منسوب الهواجس لدى الرئيس بري التي تلاقت مع هواجس مماثلة كانت موجودة لدى قيادة «حزب الله»، أُضيفت إليها هواجس الأخير حيال التطورات السياسية المستجدة في المنطقة التي وضعتها أمام خريطة جيو-سياسية جديدة عبّرت عنها إيران، ولم يكن حليف بري الاستراتيجي (أي الحزب) في منأى عنها.
وعدت أن تأخير تشكيل الحكومة لم يعد محلياً بامتياز، وبات في حاجة إلى تدخل ماكرون لدى القيادة الإيرانية لإقناعها برفع الفيتو الذي يعيق ولادتها، وقالت إن تدخل الرئيس الفرنسي لإقناع أديب بضرورة التريُّث، وعدم الاعتذار عن تشكيل الحكومة انسجاماً مع قراره في هذا الخصوص الذي بقي خارج الغرفة التي جمعته بعون، يصب في خانة تجديد ماكرون محاولة إقناع القيادة الإيرانية بتسهيل تشكيل الحكومة الإنقاذية.
وقالت المصادر نفسها إنه لا بد من التريُّث إلى حين التأكد من نجاح ماكرون في مهمته، أو عدم نجاحه الذي يؤشر في هذه الحال إلى أن طهران تربط تشكيل الحكومة بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تجري في 3 تشرين الثاني المقبل لأنها تراهن على فوز المرشح جو بايدن على منافسه الرئيس الحالي دونالد ترامب، مع أن مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد هيل، الذي يُعرف عنه أنه ديمقراطي الهوى كان أسرّ إلى بعض القيادات اللبنانية التي التقاها في زيارته الأخيرة لبيروت بأن السياسة الأميركية لن تتبدل حيال الشرق الأوسط، وتحديداً إيران و«حزب الله»، بصرف النظر عمّن سيتربّع على الكرسي الرئاسي.
وفي هذا السياق، تستحضر هذه المصادر المعاناة التي اصطدم بها الرئيس تمام سلام يوم كُلّف بتشكيل الحكومة، خلفاً للرئيس نجيب ميقاتي، والتي أخرت ولادة حكومته 10 أشهر و9 أيام بسبب إصرار الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، على أن تتشكل الحكومة من 24 وزيراً، تتساوى فيها «قوى 14 آذار» مع «قوى 8 آذار» بالتمثيل في الحكومة بـ9 وزراء لكل منهما، و6 وزراء للوسطيين.
ولم تنجح المساعي في حينه في إقناع نصر الله بأن تتشكل الحكومة بالتساوي بين هذه القوى الثلاث لمنع أي قوة من الاحتفاظ بالثلث الضامن، وأصر على موقفه، ودعا خصومه للموافقة تلقائياً على هذا التوزيع لعدد الوزراء لأنه سيأتي الوقت الذي ينقلب عليها.
لكن المفاجأة كانت بتبدل موقف «حزب الله»، بين ليلة وضحاها، بإعلان موافقته على التوزيع الوزاري الذي أصر عليه الرئيس سلام، وهذا ما نقله إليه وفد من «اللقاء النيابي الديمقراطي» الذي أخذ على عاتقه التوسُّط، بتشجيع من الرئيس بري. وعُلم في حينه أن الإفراج عن التشكيلة الوزارية جاء بقرار من طهران، بعد أن أيقنت أن لا مشكلة أمام التوصل إلى اتفاقها النووي مع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما. ويبقى السؤال: هل ينجح ماكرون في انتزاع موافقة طهران لتسريع ولادة الحكومة، على غرار ما حصل إبان تولي سلام لرئاسة الحكومة، خصوصاً أنه يتمايز بمواقفه عن الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية، إن لجهة تمييزه بين الجناح السياسي لـ«حزب الله» وجناحه الآخر العسكري، أو بالنسبة إلى تمسكه بالاتفاق النووي الأميركي – الإيراني من دون أي تعديل، كما يصر ترمب؟
ناهيك من أن ماكرون عندما التقى عضو شورى «حزب الله» رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، في عداد القيادات التي التقاها في قصر الصنوبر، توجّه له بموقف لا ترتاح له واشنطن لأنه يشكل نقيضاً لعده تنظيماً إرهابياً.
فهل تفرط إيران و«حزب الله» بالموقف الفرنسي المتمايز عن واشنطن، بعد أن أحال ماكرون البحث في النقاط الخلافية إلى مرحلة لاحقة، أم أنها تتلطى بالاعتراض الداخلي على الحكومة وتتخذ منه ذريعة ليأتي الوقت المناسب للتفاوض مع واشنطن، بعد أن ثبت في محطات سابقة أن القيادة الإيرانية اعتادت على الدخول في عملية البيع والشراء مع الإدارة الأميركية؟
لذلك، فإن التمديد الثاني للمهلة لن يمكن ماكرون من تحقيق خرق داخلي ما لم يتلقّ «حزب الله» غمزة من طهران لإنقاذ المبادرة الفرنسية، بعد أن أعاقت العقوبات الأميركية الآمال المحلية المعقودة على بري للعب دور كعادته في تدوير الزوايا، وألغت قدرته على التمايز، وبالتالي فهو ليس على استعداد للدخول في اشتباك سياسي مع حليفه «حزب الله».
كذلك فإن عون الذي يتوخى تعويم عهده بإنقاذ المبادرة الفرنسية، وإن كان يؤيد تطبيق المداورة في توزيع الحقائب الوزارية بشرط التوافق عليها، ليس في وارد الصدام مع حليفه «حزب الله»، ما يعني أنه يتصرف على أن المشكلة حول وزارة المالية تدور بين السنة والشيعة، مع أن رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل قد أيدها رافضاً التوقيع الثالث، بصفته الوجه الآخر لتحقيق المثالثة، إضافة إلى موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي المعترض بشدة على تكريس أي حقيبة لهذه الطائفة أو تلك.
وعليه، فإن المشكلة ليست بين الشيعة والسنة لأن المالية ليست ملكاً للأخيرة، ويُطلب منها التنازل عنها، ومجرد تثبيتها للشيعة يعني من وجهة نظر مصادر مقرّبة من رؤساء الحكومات السابقين أنها تحوّلت إلى رئاسة رابعة، إلى جانب رئاسات الجمهورية والبرلمان والحكومة، وهذا ما يخالف الدستور اللبناني، ما لم يعدل في ضوء وجود رفض من الطوائف اللبنانية الأخرى لأن من حقها المطالبة بالمداورة.
لذا يمكن القول إن تريُّث أديب لن يكون طويلاً، وقد يتقدم باعتذاره، لأن المعايير التي كانت وراء تكليفه لم تُحترم، وبالتالي لن يرأس حكومة من دون الشيعة، ولا يوافق في الوقت نفسه على شروطها، وهذا ما يضع ماكرون أمام فرصة التمديد الثاني والأخير. فهل ينجح في أن ينتزع من طهران جواز المرور للحكومة؟ وإلا لمن يحمّل كلفة الإطاحة بمبادرته، خصوصاً أن الأطراف في الداخل محشورة، وجميعها محاصرة من قبل الحراك الشعبي؟