يتدحرج الوضع في لبنان على نحو دراماتيكي، بمعزل عن الجهود الرامية لتأليف حكومة، تحتوي هـذا التدحرج ريثما يقضي الله أمراً كان مفعولاً!
ويكتسي هـا التدحرج أبعاداً بالغة الخطورة، تتعدى حسابات ما قبل 17 ت1 الذي يقترب من ذكرى مرور سنة على بدء احداثه، التي فضحت الطبقة السياسية على نحو فج وصريح، وطرحت دون جدوى إحداث تغيير حقيقي على مستوى السلطة، أو إبعاد فريق 8 آذار عن الإمساك بمقدرات الأمور أقله على مستوى الرئاسة الأولى (التيار الوطني الحر) أو على مستوى الرئاسة الثانية (الثنائي أمل – حزب الله)، بعد أن قرر الشريك الضعيف من بقايا 14 آذار تيار المستقبل الخروج من موقع القرار على مستوى الرئاسة الثالثة، بإعلان الرئيس سعد الحريري الاستقالة تحت وطأة تظاهرات الحراكات في الشارع، المنددة بالسلطة السياسية عن الانهيارات التي تسجلت بدءاً من نهاية السنة 2019، وبدايات العام 2020.
انفردت قوى 8 آذار بالسلطة مع تشكيل حكومة حسان دياب التي أبقت وزارة المال مع «الثنائي الشيعي» لكن التدحرج السياسي والاقتصادي والمالي حافظ على وتيرة عالية: عزلة خانقة على لبنان لم تتجرّأ دولة عربية واحدة على استقبال رئيس الحكومة الذي ضربت عليه طائفته بمكوناتها النيابية والسياسية، وهيئة رؤساء الحكومات السابقين طوقاً محكماً من الحصار، وبقي له منفذ واحد، لم يحسن الاستفادة منه، كما ينبغي، هو دار الفتوى التي زارها لمرات قليلة.
أنهى انفجار 4 آب، الذي ضرب مرفأ بيروت، حلم السلطة والحكم، لدى الرئيس دياب، وكذلك الأداء الإنفرادي، لتحالف 8 آذار مع التيار الوطني الحر، فقدم الرجل استقالة حكومته، التي أظهرت عجزاً لا يناقش عاقلان في حدته على المستويات كافة، مع انهيار العملة الوطنية، وشح العملات الأجنبية، واختفاء أموال المودعين، وانهيار الأنظمة الصحية، والغذائية والدوائية، فضلاً عن استفحال خطر جائحة كورونا، التي رفعت عدد المصابين بالفايروس، الى حدود الثلاثين ألفاً في مدى زمني لا يتعدى بضعة أشهر.
في 6 آب، وبعد يومين على انفجار المرفأ وويلاته، ونتائجه المدمرة على مستوى القتل (200 قتيل لغاية تاريخه) وآلاف الجرحى، وآلاف المنازل المدمرة، وتهجير ما لا يقل عن نصف مليون مواطن من منازلهم المصابة بكارثة التفجير، حيث لم تنكشف الحقيقة بعد، وماتزال التحقيقات القضائية جارية على قدم وساق، والناس تنتظر بعدما تساقطت المهل الواحدة تلو الأخرى..
خرج الناس مجدداً الى الشارع، وتحركت دول العالم ترسل المساعدات الطبية والغذائية والاسمنتية وتنشئ المستشفيات الميدانية.
في 6 آب اتى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى بيروت، وناقش مشكلات المواطنين على الأرض، وهو يتفقد الاحياء المدمرة في الجميزة ومار مخايل، ومحيط المرفأ، قبل أن يلتقي القيادات السياسية، والأحزاب، والرؤساء الثلاثة، ويخرج من جعبة المناقشات في قصر الأليزيه خارطة طريق لوقف «التدحرج اللبناني» الى زوال لبنان عن الخارطة..
بالتزامن، كانت الطبقة السياسية تتحضر لإحياء الاحتفال بولادة لبنان الكبير، قبل قرن، في ايلول الجاري، حيث حضر الرئيس ماكرون للمرة الثانية، وكشف من قصر الصنوبر، عن خارطته، لوقف الانهيار اللبناني، وحماية «الكيان اللبناني» الكبير من السقوط..
وكما ظهر على أرض التفاهمات، في خطوطها العامة:
– حكومة اختصاصيين، او «حكومة مهمة». اختير لتشكيلها الدبلوماسي الطرابلسي مصطفى أديب، والذي يشغل منصب سفير لبنان في برلين، عاصمة المانيا الاتحادية..
– أنجزت هذه المهمة، باتفاق 8 آذار مع الطرف السنّي الأقوى (سعد الحريري ورؤساء الحكومات السابقين).
– سقطت مهلة الأسبوعين.. ولم تتشكل حكومة المهمة. لكن مبادرة ماكرون لم تسقط، حتى موعد الزيارة الثالثة المعلنة لم يسقط ايضاً..
– بدا ان قوة دفع المبادرة الفرنسية ليس بإمكانها ان تمسح قوة الواقع اللبناني، وعناصر تركيب السلطة فيه. فبعد «نظرية الاقوياء» التي قال بها التيار الوطني الحر، وقبل هذه النظرية، تشكلت في لعبة تقاسم السلطة، في لبنان بعد الطائف، اعراف بعضها، استند الى الدستور، وبعضها الآخر الى الغلبة، وهي ان ممثلي الطوائف، هم من يسمّي الوزراء، وكان الراعي أو الوصي السوري، هو من يتولى توزيع الحقائب، استناداً الى المهام الموكلة للطوائف، في بلد، بدا وكأنه قيد التكوين من جديد..
ولا يخفي ان الوصاية السورية غالباً، ما كانت تتدخل في الاسماء من باب الحصة، التي ترجح اتخاذ القرارات، او تعزز وضع اليد على القرار في البلد:
– وزراء السنَّة، يسميهم الرئيس رفيق الحريري (عندما كان رئيساً للحكومة، وذلك في فترة تشكيل الحكومات قبل اغتياله في 14 شباط 2005).
– وزراء الشيعة: جلُّهم يسميهم الرئيس نبيه بري، الذي لا يزال يحاول ان يلعب اللعبة نفسها، منذ ما قبل اتفاق الطائف..
– الوزراء الدروز: معظمهم يسميهم القوي في طائفته الدرزية وليد جنبلاط..
– أمَّا المسيحيون، قبل الـ2005، فيحصلون على حصتهم كاملة، ولكن التسمية إمّا تأتي من السوري او الدرزي، او السني او الشيعي، وبعض الاحيان من احزاب مسيحية تدور في الفلك السوري، او شخصيات نادراً ما تكون مقربة من بكركي.
– بعد الـ2005، الذي شهد احداثاً بالغة الخطورة، اغتيال الحريري، الانسحاب السوري، تشكيل حكومة جديدة، سبقتها وتلتها انتخابات نيابية.. بدأت المطالبة بأن الحصة المسيحية من النواب والوزراء والمدراء العامين هي من شأن المسيحيين: التيار الوطني الحر، «القوات اللبنانية»، حزب الكتائب، تيار المردة وحزب الطاشناق..
صفّى الحساب المسيحي شخصيات مسيحية مستقلة (آل المر، وآل سكاف، آل الخازن وغيرهم).
– في الواقع الجديد.. يسلِّم أمراء الطوائف، ان التساكن الطائفي، تحت سقف لبنان الكبير، غير متاح، خارج الإئتلاف في مجلس الوزراء، كل يسمي وزراءه، ثم يأتي دور المراسيم فتصدر بعد أسابيع أو اشهر أو نصف سنة أو سنة..
– نشأت أزمة ثقة بين أمراء الطوائف، بصرف النظر عن مواقعهم في السلطة، وكانت المناخات السياسية الاقليمية والدولية، هي التي تتحكم بمسار تشكيل الحكومة، ايّا كان رئيسها، او مكوناتها الطائفية..
– في غمرة انهيار الثقة بالطبقة السياسية في لبنان من قبل المواطنين، الذين فقدوا اموالهم وأعمالهم، ولحقت المصائب والكوارث بأولادهم وأزواجهم ومنازلهم، استقر المناخ الدولي على اعتبار ان هذه الطبقة خارجة على القانون، وبالتالي يجب إقصاؤها عن السلطة بأي طريقة..
– تراءى للمعنيين بإعادة رسم الخرائط في المنطقة ومنها لبنان، ان الفرصة سنحت، ويتعين ضرب الحديد حامياً، اي اطاحة حكومة دياب، والاتيان بحكومة، تشكل بعيداً عن «الثنائي الشيعي» والتيار الوطني الحر، ما دام الحزب التقدمي الاشتراكي، و«القوات اللبنانية» والكتائب، نحت جانباً، وقالت أنها لا تريد أن تتمثل في الحكومة..
– ليس بإمكان «الفريق الشيعي» ان يوقع على قرار اعدامه بيده، التيار الوطني الحر، قالها جبران باسيل بصراحة، ان الرئيس ميشال عون يغطيه، ويمثله، ليتفرغ هو لمجابهة «القوات اللبنانية» التي يتعزز حضورها على الساحة المسيحية، استعداداً للحظة تلتهم فيها «التيار الوطني الحر» ورئيسه ونواب الرئيس والكادرات،عندما تحين اللحظة للجلوس مجدداً إلى طاولة «التفاوض»، الدولي من اجل اعادة انتاج «صيغة تسوية» تسمح ببقاء لبنان الكبير، او تعيد إنتاج قاعدة «تفاهم طائفي» بدءاً من لبنان الصغير.. او جبل لبنان، والمصالحة التي وقعت على ايام البطريرك الماروني الكاردينال صفير..
– يقاتل «الفريق الشيعي» استباقياً، لابقاء التوقيع على القرارات من حق ممثله: «أمل»- بري وحزب الله، من خلال الاحتفاظ بوزارة المالية.
– تعاطى الفريق الفرنسي بمرونة مع المكونات اللبنانية، مستفيداً من ضربة العقوبات الأميركية، الآخذة بالتصعيد، لتشمل «رأس المحور» الداعم لحزب الله اي إيران، بمعزل عن نتائج الانتخابات الأميركية في 3 أو 4 ت2 المقبل..
– أمَّا على الأرض، فينشط «السياديون المسيحيون الجدد» في تسعير المناخ على الأرض، بوجه حزب الله و«الفريق الشيعي»، بما في ذلك تيار جبران باسيل، الذي قرر المواجهة على قاعدة: السن بالسن والعين بالعين..
وكأن حرباً من نوع جديد آتية الى البلد.. يستعد هؤلاء «السياديون»الذين إما ولدوا من رحم «القوات» أو يدورون في فلكها، لمجابهة دموية، مستفيدين من تحولات مسار السلام في الشرق الاوسط.. من المبادرة العربية: الأرض مقابل السلام، الى المبادرة الترامبية (صفقة القرن)، السلام مقابل السلام..
– ليس بالضرورة أن يعتذر مصطفى أديب اليوم وغداً، او تتألف حكومة، وقضي الأمر.. المسألة أبعد، إنها مسألة المصائر الكبرى للدول الصغرى، في شرق الأزمات المفتوحة!