… إنه «الخريفُ المُخيف» يدْخُله لبنان مُسْتَنْهِضاً كلّ عناصر «وصْفة الخراب» الذي تتعدّد أسماؤه «الحَرَكية»، من الانهيار الكبير إلى الزوال مروراً بالسقوط المريع، والذي صار تأخيرُ موعدِه مُعَلّقاً على مَكابح تسعى باريس إلى فرْضها مستفيدةً من «الوقت الضائع» الفاصل عن انتهاء السباق إلى «البيت الأبيض» وعدم ممانعة واشنطن تصفيح الأزمة اللبنانية من دون تقويض حملة الضغط الأقصى التي تُمارِسها على «حزب الله» من ضمن الصراع الكبير مع إيران.
وبعد 20 يوماً على انطلاق عدّاد المبادرة الفرنسية التي تتكسّر تباعاً مواعيد «خطّ نهايتها» الذي يشكّله النجاحُ باستيلاد الرئيس المكلف مصطفى أديب حكومةً من اختصاصيين مستقلّين ومع مداورة بالحقائب تعطي الإشارةَ الأولى إلى جديةِ الداخل بإطلاق قطار الإصلاحات واستقطاب جرعة دعْم دولي كفيلة بمنْح لبنان «اوكسيجين» هو بأمسّ الحاجة إليه للصمود في منتصف الهاوية التي انزلق اليها، بدا أن هذه المبادرة استُدرجت إلى دهاليز الأزمات الكامنة في الواقع اللبناني والتي كانت العنوانَ المكتوم لمجمل الصراع الذي قبض على البلاد منذ العام 2005 والذي تمحور بأشكال مختلفة حول النظام وتوازناته.
واستوقف أوساطاً واسعة الاطلاع أن ماكرون الذي كان يسعى إلى فصْل السياسة عن الاقتصاد وتوفير «منطقة آمنة» تسمح للبنان بالتقاط الأنفاس مالياً واقتصادياً وبدء تضميد جراح انفجار 4 اغسطس المُزَلْزِل في انتظار مرحلة الإنقاذ والنهوض الفعلي المرتبطة بمآل المواجهة الطاحنة في المنطقة وعملية ترسيم النفوذ وتَقاسُمه، إذ بالسياسة تُغْرِق مبادرته من الداخل والخارج على خط تقاطُعاتٍ محورها «حزب الله».
فعلى مستوى الداخل، تختصر حقيبة المال كل الحروب المستعرة على جبهة ملف تأليف الحكومة الذي يبقى المعيار الوحيد لنجاح المسعى الفرنسي الذي بات بحُكم الميْت من دون إعلانٍ ما لم يتلقَّ «صدمةً كهربائية» تحييه ويبقى القفلُ والمفتاحُ فيها تفكيك صاعق وزارة المال.
ولم يعُد خافياً أن الثنائي الشيعي («حزب الله» والرئيس نبيه بري) صار يتعاطى مع معركةِ تكريس «المالية» من حصته في نظام المحاصصات الطائفية على أنها ذات أبعاد استراتيجية تتصل بسعيه لتعديل آليات الحُكْم، بحيث يصبح شريكاً مُضارِباً في السلطة التنفيذية، بختْمٍ شرعي يُغْنيه عن الحاجة لأي شركاء لتكوين «ثلثٍ مُعَطِّلٍ» في الحكومات يبقى الإمساكُ به رهنَ تحالفاتٍ قد لا تتوافر في كل مرة، على عكْس انتزاعه «التوقيع الذهبي» الذي يستشرس لتكريسه للمكوّن الشيعي عبر حقيبة المال، بما يعنيه ذلك من إعادة صوغ التوازنات (على نحو يُرْسي المثالَثة) في النظام الذي أرساه «الطائف» والتي تولى الحزب قَضْمَها تباعاً وبشتى الوسائل منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري (2005).
وإذ كان لافتاً، بحسب هذه الأوساط، رسْمَ الثنائي الشيعي، في سياق لعبة «عض الأصابع» تحت عنوان «المالية لنا مهما كان الثمن»، معادلةَ ضمنيةً مفادُها بأن عدم الآخَرين بهذا المطلب – الشرط يعني فتْح معركة «الدولة المدنية» التي تعني بمفهومه إلغاء الطائفية السياسية واعتماد الديموقراطية العددية، جاء بالغ الدلالات تَصَدُّر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي مجدداً التصدي الحازم لمجمل هذا المسار، مُطْلِقاً مواقف السقف الأعلى التي يصعب إشاحة النظر عنها من المعنيين بالتأليف داخلياً وخارجياً والتي تعكس في جانبٍ آخَر بدء خروج جمر الحساسيات الطائفية من تحت الرماد السياسي، وهو ما عبّر عنه التصدّي المضاد الذي تولاه المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الذي ذهب أبعد دفاعاً عن استثناء المالية من مبدأ المداورة وإلا «لتكن على كل وظائف الفئة الأولى (قيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي وغيرها)».