كتب جوزف طوق في “الجمهورية”:
كانت ستّي، الله يرحمها، تخاف على حقوق المسيحيين أكثر من أي رئيس أو مسؤول أو زعيم مسيحي. ستّي، لم تكن تفهم في الدساتير والأعراف والقوانين، ولم يكن لديها تحالفات محليّة مع أم طنّوس وأم شربل، ولا تحالفات إقليمية مع أم جورج وأم سمير وأم سامي. لكنها كانت، بلا أدنى شكّ، حريصة على هذه الحقوق أكثر من أيّ طوباوي مُنتَخَب بالوراثة أو قدّيس مُجتبى بمعارك الماضي.
ونحن صغار، أصرّت لفترة امتدّت حتى أصبحنا مراهقين وأكثر، على تعليمنا درساً واحداً جوهرياً من دون سواه، وظلّت لسنوات تردّد على مسمعنا عبارة «يَلّي بيكذب بيروح ع جهنّم»، ومن ثم كانت تسألنا: «مين بيروح ع جهنّم؟»، وكنّا نحن نردّ تلقائياً «يلّي بيكذب». وهكذا، وبدرس واحد من عجوز بسيطة، ترسّخت فينا فلسفة الكذب والحقيقة وأصبحت نهجاً، واعتدنا أن يكون كلامنا «نعم نعم» أو «لا لا»، وبتنا مجهّزين لقول الحقيقة دوماً حتى لو كان على حساب العيش في جهنّم الرافضين، طالما أننا لن نخاطر بكذبة قد تأخذنا معها إلى الجحيم الأبدي.
ستّي يا ستّي.. الله يرحمك يا ستّي، بدّي طمّنك نحنا رايحين ع جهنّم، ولَما كنّا ذاهبين بأرجلنا وبكامل إرادتنا لو لم نَتماد بالكذب على بعضنا، ولو لم يتفنّن السياسيون بالكذب علينا لعهود وعهود وانتخابات وولايات وحكومات.
للصراحة، كنّا نكذب أحياناً، لكن كذبة بيضاء، كذبة صغيرة بريئة لا تشتري لنا تذكرة إلى الجحيم… لكن عندما كبرنا، اكتشفنا أنّ للكذب ألواناً في لبنان. كذب وألوان تكفي شرورها لحجز جناح خاص للّبنانيين في الجحيم مع خدمة دولوكس من عزرائيل والشياطين. الحقيقة الوحيدة في تاريخنا كانت الحرب الأهلية، وما ان انتهت حتى ظهر قوس قزح الكذب.. كذب أخضر فاتح وغامق وفوسفوري، وكذب أصفر وكذب أحمر وكذب برتقالي، وكذب أزرق وكذب أسود وكذب محيّر… كذب على مدّ النظر، ما شبع منها البشر.
وحياتك يا ستّي، نحن لم نتفاجئ أمس ببشرى رئيس الجمهورية الواضحة والصريحة بأننا رايحين ع جهنّم، فهذا أقلّ الإيمان. فمع هذه الكميّة المهولة من الكذب والتلفيق والدجل على مدى عشرات السنوات، لم نكن ذاهبين إلى جزر المالديف وهاواي لاكتساب سمرة من حرارة الشمس، بل كنّا نخزّن أدوية لمداواة حروقنا من درجة الجمهورية الأولى والثانية.
لكن عن أي جهنّم يتكلمّون ونحن نعيش في دولة لبنان الجحيم؟ فالأسعار نار، والدولار مولّع، والأمن يغلي، والمرفأ انفجر، وبيروت مفحّمة، والناس تحترق، والغابات تشتعل، والاستقرار نار تحت الرماد، والمراكب تطبخ الهاربين فيها أحياء، والشياطين تحكم وتقرّر، ومستقبل لبنان أسوَد.
كنّا مؤمنين أنّ الأمثال الشعبية لا تخطئ، لكن بأيّ عدل زَمط مَثَل «حبل الكذب قصير»؟ متى سينقطع هذا الحبل وينتهي دستور الكذب في لبنان؟ متى ستتوقف الأجيال عن تسليم الأجيال هذا الحبل، وإلى أي مدى ممكن أن يطول هذا الحبل اللعين، هذا الحبل الذي بدأ بلبنان يا قطعة سَما واستمرّ حتى أصبح لبنان يا غرفة في جهنّم؟
هي المنابر فقط لو تصمت عن بَث الوعود والأحلام. هي المنابر فقط لو تتقاعد عن استقبال الكذّابين. هي المنابر فقط لو تمدّ يدها وتخنق حنجرة تمارس «الكذبة السريّة» من خلفها. هي المنابر فقط، وفقط لمرّة واحدة، لو تفتح ذراعيها لاحتضان شجعان لا يكذبون، شجعان يقولون الحقيقة، شجعان يفضحون الكذّابين، شجعان يقطعون حبل الكذب حتى ينتهي جحيمنا ويلغي تذاكر رحلتنا إلى جهنّم المحجوزة بأموال نهبوها، وعلى متن مواكب سرقوها، وفوق كراس صادروها، وفي مشوار يسير على صوت دربّكة تعزف في آخر الباص أغنيات حزبية كاذبة وشعارات فارغة.
ألم تشبعوا كذباً أيها المسؤولون؟ لأننا اختنقنا من جحيمكم…