كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
الخلطات «السحرية» التي تُطرَح لعلاج حقيبة المالية كلُّها من نوع الشعوذة. لن يتمّ العثور على شيعي «تكنوقراط»، ويحظى برضى «الثنائي» أفضل من الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني، الذي انتهى في حكومة الأكاديمي حسّان دياب، شبيهاً بالوزير الحزبي علي حسن خليل. إذاً، سيكون انسحاب الرئيس مصطفى أديب من اللعبة باكراً، وإعلان الرئيس إيمانويل ماكرون فشل المبادرة صراحةً، أفضل من تغطية الفشل بصيغة مُلتبسة تؤجِّل سقوط البلد الآن… من الطابق الرابع، لأنّه سيسقط حتماً بعد أشهرٍ… من الطابق العاشر!
الحدث الأهم أمس، لا يتعلق بتأليف حكومة جديدة. إنّه طبعاً انفجار عين قانا وما يمكن أن يحمله من أبعاد. ولكن أيضاً، كان مُهماً جداً اجتماع بعبدا، لاتخاذ قرار يتعلق بالطريقة التي سيجري فيها وقف الدعم عن المواد الأساسية، بدءاً بالدواء والطحين والوقود وانتهاء بدولار الطلاب في الخارج. إنّه عملياً بداية إعلان حال طوارئ اجتماعية، ستكون لها تداعيات خطرة جداً.
في ظلّ الهواجس الأمنية المتنقلة، والاختناق الاقتصادي والانهيار المالي والنقدي الذي سيتسارع مع رفع الدعم، سينفجر الناس بقوةٍ تفوق انفجار 4 آب. وأي سلطة يمكنها أن تطوِّق انفجاراً مشحوناً بهذه الطاقة؟ إلّا إذا قرّر بعض القوى تحويل هذه الطاقة عن هدفها ومسارها، فجعلها حرباً داخلية، كما حصل أحياناً في لبنان.
في الفترة الأخيرة، بدأ الناس بسحر ساحر يشْتَمّون رائحة البارود والحرائق. ولأنّ لهم تجاربهم في هذا المجال، هم يخافون الحرب التي تبدأ في لحظة، بزاروبٍ أو متراس أو اغتيال، ولا تنتهي بجولات وجولات على مدى الساحات كلها، ولسنوات. ويسأل البعض: هل هناك مَن يفضّل التضحية بلبنان مجدداً، إحراقاً وإغراقاً، من أجل أن ينقذ رأسه ويحافظ على المكاسب؟
يجدر التنويه، بأنّ كل العناصر التي اختزنتها حروب لبنان منذ 1975 ما زالت تتوهّج تحت الرماد: إسرائيل، النظام السوري، الفلسطيني الذي يطلّ لا بياسر عرفات بل باسماعيل هنيّة. والأهم طبعاً «حزب الله» وإيران وتركيا وكثيرون.
بصراحةٍ، الفتنةُ بألف خير، لكنها نائمة، فمَن تُسوِّل له نفسه أن يوقظها، «عَليَّ وعلى أعدائي»؟
في الأسابيع الأخيرة، كاد بعض المَشاهد يُفْلِت من «علبة الكوابيس» القديمة: المسيحيون في ميرنا الشالوحي، الشيعة في لوبية، السُنّة في الطريق الجديدة، الشيعة والسُنّة والدروز في الشويفات، الفلسطينيون في عين الحلوة، والإرهابيون في كفتون وبعض الشمال.
لا يحتاج الأمر سوى إلى قرار يتخذه طرف أو أكثر بإطلاق الفتنة. وفي عبارة أكثر دقّة، إلى قرار برفع الغطاء عن الاستقرار الهشّ. وهذا الأمر يمكن أن يحصل اليوم كما حصل في العام 1975 وبعده.
يمكن الركون إلى مستوى من الأمان، إذا كانت القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لا تزال حريصة على استقرار لبنان. ولكن، لا أحد يضمن أَلّا تتقاطع المصالح مجدداً على إعادة استخدام لبنان ساحة صراع أو صندوق بريد للرسائل الساخنة. وانفجار عين قانا أمس يطرح الكثير من الأسئلة الصعبة.
إذاً، كل مؤشرات البلد سلبية، بل سوداوية. ومع سقوط المبادرة الفرنسية (كما يتبيَّن حتى الآن)، ستتكشف عناصر التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي إلى الحدّ الأقصى، وستبرز أيضاً ملامح الخطر الأمني. وهذا ما يهدّد بـ»زوال» لبنان، على حدّ تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان. وبهذا يصبح منطقياً توصيف رئيس الجمهورية للأزمة: «جهنم»!
وسيكون التحدّي عند هذا المستوى: هل لبنان الحالي هو النموذج الملائم والمطلوب شرق أوسطياً وعربياً ودولياً، أم إنّ هناك مَن يريد إرساله إلى «جهنّم» بحثاً عن نموذج آخر؟
المطلعون يقولون: أياً يكن الأمر، لبنان لن يُترَك لمصيره، وكل شيء فيه سيكون تحت السيطرة، والقوى الدولية التي تتعاطى معه بوصفه مركز ثقل أساسي في رسم مستقبل الشرق الأوسط لن تسمح باضمحلاله. ولذلك، هو سيصل إلى القعر تماماً، ومن هناك سيبدأ رحلة النهوض من جديد. والقوى الدولية ستتدخّل مباشرة وتفرض الخيارات المناسبة.
يذكّر البعض بمرحلة سابقة. عَرَض الأميركيون على لبنان أن يختار: «مخايل الضاهر أو الفوضى». لم يستجب ذوو الشأن إلى العرض. فضَّلوا الفوضى. ولكن، حتى الفوضى لم تكن كافية. فبعدها جاءهم النائب السابق مخايل الضاهر، ولكن بأسماء أخرى. واليوم، يطرح الأميركيون على لبنان أفكاراً للحل. فهل يستجيب المعنيون؟
ثانياً، يسأل البعض، ما فترة الانتظار التي يمكن أن يستغرقها البلد قبل أن يبدأ مرحلة التعافي، كم ستطول؟ هل هي بالأشهر مثلاً، أو بالسنوات؟
يقول المطَّلعون: هذا السؤال يطرحه الناس العاديون في لبنان. هم المستعجلون لأنّهم موجوعون. لكن القوى الخارجية ووكلاءها في الداخل لا يهمُّهم إلّا تنفيذ البرامج والأجندات السياسية والأمنية والعسكرية، مهما طال الوقت وتعاظم الوجع، ما داموا «مرتاحين على وضعهم» في لبنان. فإلى أي حدّ سيستمرّ هؤلاء مرتاحين؟