كتبت جنى جبّور في صحيفة “نداء الوطن”:
المكان: برج حمود. الزمان: في منتصف النهار. الهدف: عملية تبادل “كاش” باللبناني “مقابل شيك “بالدولار”. ركنّا السيارة في النقطة المتفق عليها مسبقاً، حضر الوسيط في الوقت المحدد، أخذ منا مبلغ “3 ملايين و50 ألف ليرة لبنانية” ودخل الى أحد المحلات المجاورة لدقائق معدودة، ثم خرج وسلمنا شيكاً بقيمة “1000$”، قائلاً “تصرفوهم بالهنا”. هذا المشهد، ليس سوى عينة بسيطة من تجارة الشيكات في لبنان!
هل تريدون جني المال السريع ومن دون أي جهد يذكر؟ الإجابة هي بالدخول إلى عالم تجارة الشيكات الرائجة في كل المناطق اللبنانية من دون استثناء. ما عليكم سوى امتلاك حساب مصرفي بالدولار، أو تأمين “الكاش” اللبناني بين أيديكم. سوق الشيكات مزدهرة بشكل جنوني. لا أحد يعرف من هو ذلك الشخص الذي يتكفّل بالمهمة. شخصيته سرّية. من يُعرف هو الوسيط الذي يؤمن الزبائن مقابل عمولة محددة. الأسئلة الكثيرة كفيلة بإلغاء العملية. لا يحبّذ الوسيط “الحشرية”، وطرح الاسئلة التي تثير الريبة. فبالنسبة إليه “الثقة” أهم ميزات العملية الناجحة.
الاحتيال على تعميم مصرف لبنان
قصة تهريب الأموال من المصارف بواسطة الشيكات والحصول على قسم منها نقداً… قصة قديمة. الجديد في هذا الموضوع “الإبداع” الذي خلقته الأزمة الاقتصادية في لبنان، ولا سيما تعميم مصرف لبنان رقم 151 القاضي بالسماح للعميل المودعة أمواله بالدولار، أن يسحبها بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف 3900 ليرة للدولار، على ألّا تتعدى تلك السحوبات مبلغ 5000 دولار شهرياً كحد اقصى، على أن يحدد كل مصرف سقف السحوبات المسموح بها اسبوعياً أو شهرياً.
ساهم هذا التعميم بتحديث تجارة الشيكات وجني المال السريع، لأسباب متنوعة. كارل مثلاً، يبيع الشيكات ليس طمعاً بالأرباح على حد قوله، فبحسبه “لدي نمط حياة معين، والمال الذي احصل عليه من المصرف غير كافٍ، لذلك ابيع الشيكات بالدولار لأصدقائي، على قيمة صرف 3000 ليرة. شخصياً، لا اعرف ماذا يفعلون به، ولكن اتوقع انهم يدخلونه الى حساباتهم المصرفية ومن ثم يسحبون المال على قيمة صرف التعميم”. أمّا رامي فيؤكد اضطراره الى الدخول بهذه “المعمعة”، ويقول: “لدي مستحقات ورواتب أدفعها بالليرة اللبنانية شهرياً للموظفين والعمال، وكل ما اقوم به هو بيع شيك بقيمة 10 آلاف دولار مقابل 30 مليون ليرة لبنانية تقريباً”، متسائلاً: “أين الخطأ في هذا الموضوع؟ فالمصارف استولت على مالي”. والى من يبيع الشيكات يجيب: “لا أعرف، انه وسيط يعمل مع تاجر تبغ، هذا كل ما اعرفه”.
واذا كان كارل ونعيم، لا يعتبران نفسهيما من تجار الشيكات، فهناك آخرون متخصصون في هذا المجال. مثل طارق، الذي اشترى شيكاً بقيمة 100 ألف دولار على سعر صرف 2700 ليرة لبنانية، من شخص كان بحاجة ماسة الى السيولة، ويقوم بدوره بتحرير الشيكات الى من يريد على سعر صرف 3000 ليرة لبنانية. بشكل أوضح، يقول: “اشتريت شيكاً بـ270 مليون ليرة لبنانية، وبعت عدداً من الشيكات بـ 300 مليون ليرة لبنانية، فحققت ربحاً بـ30 مليون ليرة لبنانية”. لا تتعامل المصارف اللبنانية بسهولة مع الشيكات، فبعضها يقوم بتجميدها لـ6 أشهر تقريباً، وبعضها الآخر يدقق جدّياً بمصدر المال قبل قبول ايداعها أو رفضها. ولكن كيف يستطيع طارق وأمثال طارق، إنجاح عملياتهم؟ الاجابة على هذا السؤال، تلقي ظلالاً من الشبهات على بعض المصارف، ويحكى عن تورط أصحابها أو مسؤولين فيها، بتسهيل هذه العمليات. ولا ينفي طارق هذه النقطة بل يشرحها ببساطة: “العلاقة الجيدة مع اصحاب ومدراء المصارف تسهل نجاح العملية”، مضيفاً: “بالنهاية كل شي بحقو”.
ننتقل الى الصرافين، كيف يتعاطى هؤلاء مع الشيكات؟ الصرافون الشرعيون يشترون الشيكات من دون أن يبيعوها، وكلما ارتفع سعر صرف الدولار، ترتفع النسبة المفروضة على الشيك والعكس صحيح. حالياً، يحصل الزبون على 30 بالمئة من قيمة الشيك. ويختلف الوضع اذا أراد تحصيله بالدولار أو بالليرة اللبنانية. وبحسب أحد الصرافين “يحصل حامل شيك بقيمة 10 آلاف دولار على 3000 دولار نقداً أو 28 مليون ليرة لبنانية”. كذلك، تنطبق طريقة العمل نفسها بالنسبة للصرافين غير الشرعيين، مع اختلاف قيمة الصرف بحسب عمولة “الوسيط”.
تجارة التحويلات المصرفية
إن كنتم تظنون أنّ تجارة الشيكات هي “البدعة” الوحيدة التي يلجأ اليها اللبناني للاستفادة من التعميم 151 فأنتم مخطئون، فالاسلوب نفسه يتكرر في ما يخص التحويلات المصرفية. هذا ما يؤكده احد “العاملين” في هذا المجال، شارحاً: “كل شخص يملك حساباً بالدولار، وبحاجة الى مال اضافي عن سقف السحوبات التي يحددها مصرفه، يمكنه تحويل المال الى حساب شخص آخر على أن يسدد له ثمن عملية التحويل نقداً بالليرة اللبنانية، على سعر صرف يتراوح بين 2900 و 3100. ويستفيد “البائع” من النقدي بدل ترك أمواله المسجلة دفترياً محتجزة من قبل المصرف، امّا الشاري فيعود ويسحب المال وفق تعميم 151 أي على قيمة الـ3900، محققاً الارباح”. لا تنحصر تجارة الشيكات أو التحويلات المالية في منطقة واحدة، بل تمتد الى كل المناطق اللبنانية، الّا أنّ ضغط العمل الاكبر يتمركز في بيروت، بحسب ما يكشفه لنا “وسيط” أو “سمسار” شيكات. ويقول: “لكل منطقة “تسعيرة”، فنسبة الشيك تختلف من 100 الى 200 ليرة لبنانية بحسب المنطقة ان كان في الشمال أو في الجنوب او في البقاع. وبالتالي، يمكن صرف الشيك على سعر يتراوح بين الـ 2900 و 3100 بحسب حجم المبلغ، و”شطارة الوسيط”، وسعر الصرف اليومي في السوق السوداء. وفي مختلف الحالات، يستفيد “الزبون” من هذه العملية، اذ يسحب ماله من المصرف على سعر صرف 3900 ليرة”.
على ما يبدو، أنّ لهذه المهنة المستجدة في السوق اللبناني الكثير من “الزواريب” التي يجب الانتباه إليها وتجنّب مطبّاتها، وبحسب الوسيط “مش مين ما كان بِقَلّع… والغلطة حقها مصاري”. نسأله عن الأخطاء الوارد حصولها، فيجيب: “أولاً، يجب التأكد من رصيد الشيك، فالكثير من اللبنانيين “عم ياكلو الضرب” عندما يتوجهون الى المصرف لايداع الشيك. من هنا، يجب التأكد من الرصيد قبل تسليم المال”. ولكن، كيف يمكن التأكد من الرصيد؟ يجيب: “بدك تعرفي حدا بالبنك” الذي يتعامل معه البائع، ويمكن طلب صورة مسبقة للشيك وتحويلها الى موظف المصرف قبل عملية الشراء”. نتوقف هنا، فيتبين معنا أيضاً أنّ بعض الموظفين أو مدراء او اصحاب المصارف لهم علاقة بتأكيد صحة الشيك من عدمه. يكمل حديثه قائلاً: “ثانياً، الثقة عامل اساسي، فكل زبائني يثقون بي، فأنا لا أغشهم، وبالتالي لن يضطروا الى التأكد من صحة الشيك قبل تسليمي المال، لان سمعتي جيدة في السوق، باختصار “أنا بدبرها على مسؤوليتي”، مقابل عمولة محددة. فأنا أؤمن الشيك من “الممول” على سعر صرف اقل من 3000 ليرة لبنانية، 2800 مثلاً، وأبيعه للزبون على سعر 2900 أو 2950 أو 3000″. مضيفاً: “الممول ما بزعلني” لاني أبيع له أكثر من 100 شيك شهرياً. كذلك، يجب أن ينتبه الزبون الى نوع الشيك، فمثلاً اذا كان مستفيداً أول، فهذا لن يفيده في تجييره لشخص آخر”.
فرصة لتبييض الأموال؟
تنتشر اخبار عن أنّ ازدهار تجارة الشيكات خلقت فرصة ذهبية لاصحاب الاموال النقدية المشبوهة، المحفوظة بالاصل خارج القطاع المصرفي، فيَهمّ اصحابها الى تبييضها من خلال ادخالها الى القطاع المصرفي “بشكل نظيف”. وبحسب رواية أحد الوسطاء في هذا المجال “بينما كان يدفع أصحاب الأموال المشكوك بمصدرها عمولة لمن يساعدهم على تبييض أمواله وإدخالها إلى القطاع المصرفي، أصبح اليوم هو من يحصل على العمولة من صاحب الشيك ويتمكن لاحقاً من تبييض أمواله بواسطة المصرف الذي سيودع فيه الشيك الذي إشتراه، إضافةً إلى تحقيقه أرباحاً إضافية من عملية التبييض ناتجة عن الفرق بين القيمة الأساسية للشيك والمبلغ النقدي الذي دفعه ثمناً له. وفي النهاية بائع الشيك لا يهمه سوى الحصول على “الكاش”، من دون ان يسأل عن مصدر الاموال”. مشيراً الى أنّ “ليس كل عمليات تجارة الشيكات هدفها تبييض الاموال، فغالبية من أتعامل معهم هدفهم الاساسي تحقيق الارباح فقط في هذا الوضع الاقتصادي الصعب”.