Site icon IMLebanon

عضّ أصابع ومناورات وكمائن على الجبهة الحكومية

حرّكتْ مبادرةُ «لمرّةٍ واحدةٍ» التي أطلقها زعيم «تيار المستقبل» الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري المياهَ الراكدة في ملف تشكيل الحكومة الجديدة من دون أن يبدو طرْحَه التَسْوية حول حقيبة المال كافياً حتى الساعة لرسْم خطّ نهايةٍ سعيدةٍ لمسار التأليف الذي بات الصراعُ الداخلي حولَه وكأنه يدور على «رأس» نظام الطائف وتوازناته والذي لم يعُد ممكناً فصْل أبعاده الخارجية عن النظام الإقليمي الجديد الآخذ بالارتسام في المنطقة من خلف خطوط النار و… السلام.

وبدا واضحاً أمس، أن الحريري الذي كرّر «سوابقه» بخوْضِ المُخاطَرات الكبرى التي أعطاها هذه المرة عنوان «تَجَرُّع السُم»، أراد وفق أوساط مطلعة كسْر حلقة دوران ملفّ التشكيل منذ 23 يوماً في مكانه عبر «حلٍّ وسط» يقوم «نصفه الأول» على أن يتراجع خطوةً إلى مربّع القبول بأن تبقى وزارة المال لمرة واحدة (جديدة) مع المكّون الشيعي الذي يمثّله ثنائي «حزب الله» رئيس البرلمان نبيه بري، على أن يشكّل نصفه الثاني ملاقاة هذا الثنائي تَنازُله بقبوله أن يتولى الرئيس المكلف مصطفى أديب تسمية مَن سيتولى هذه الحقيبة وفق المعيار نفسه الذي يَسْري على سائر وزراء «حكومة المهمة» المؤلفة من اختصاصيين مستقلّين.

ورغم المناخات الشديدة السلبية التي قوبلت بها خطوة الحريري داخل بيئته الشعبية كما السياسية الحاضنة باعتبار أنه «أَخَذَ بصدره» مرة جديدة ومن رصيده المتآكِل بفعل تسويات «ام الصبي» إنقاذَ مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وَقَعَ في «مصيدة» التعقيدات اللبنانية وأفخاخها الموصولة بفتائل المنطقة وكمائنها، وفي الوقت نفسه أَحْدَث (الحريري) ثُقْباً كبيراً في مبدأ المداورة الشاملة (بالحقائب) بوصْفه ركيزةَ أساسية في «طوق النجاة» الذي يُفترض أن تشكّله «حكومة المهمة» الإصلاحية، فإن الأوساط المطلعة اعتبرت أن زعيم «المستقبل» الذي لم يتوانَ عن الإفصاح بأن ثمة مَن سيعتبر طرْحه بمثابة «انتحار سياسي» لعب ورقةً من شأنها حشْر الآخرين في زاوية الكشف عن القطب المَخْفية الحقيقية في الملف الحكومي والتي تراوح بين حديْن:

الأول رغبة الثنائي الشيعي في انتزاع تسليم داخلي بأحقية المكوّن الشيعي في وزارة «التوقيع الثالث» في السلطة التنفيذية تحت عنوانٍ ميثاقي يغلّف تعديلاً «يُكتب بلا حِبْر» في النظام، والثاني استرهانِ الواقع اللبناني برمّته لأجندةِ إيران ومقتضيات المواجهة الكبرى مع الولايات المتحدة.

ورأتْ الأوساطُ عبر «الراي» أن الحريري، الذي يُدْرِك تماماً وقْع مبادرته على حلفاء إقليميين ودوليين وخصوصاً بحال أي تَنازُل إضافي تحت سقف أن يسمّي أديب وزير المال المستقلّ كما الأعضاء الآخَرين في حكومته، يجد نفسه محاطاً بخطيْ دفاع يمنعان ذهابه أبعد في مسار التراجع الشائك الذي كُشف أن زعيم «المستقبل» أطلقه بالتنسيق وحتى بتشجيع من ماكرون لرمي كرة التعطيل في ملعب الآخَرين:

* خط الدفاع الأول شكّله موقف الخارجية الفرنسية التي أصدرت بياناً رحّبت فيه «بالإعلان الشجاع» للحريري «الذي برهن عن إحساسه بالمسؤولية والمصلحة الوطنية للبنان»، معتبرة أن مبادرته تمّثل «نافذة على الجميع إدراك أهميتها من اجل تشكيل حكومة مَهمة الآن»، معاودةً رسْم «المعادلة الثلاثية» لمعايير التأليف التي يُراد لأديب اتباعها والقائمة على: «توزير شخصيات مستقلة، متخصصة، يختارها الرئيس المكلف بنفسه».

* والخط الثاني وفّره رؤساء الحكومة السابقون الآخرون (فؤاد السنيورة، تمام سلام ونجيب ميقاتي) الذين ورغم تعاطي البعض مع «تبرئهم» السريع من مبادرة الحريري «التي نعتبر أنفسنا غير ملزمين بها، وتبقى القضية الأساس بالنسبة لنا الثبات على مبدأ الحفاظ على الدستور» على أنها في سياقِ اشتباكي معه، إلا أن بعض العارفين أشاروا إلى أن موقفهم المبدئي بدا على طريقة توزيع الأدوار وهو يرسم لزعيم «المستقبل» طريق العودة «على رِجليْن» إلى كَنَف الخيار «الأصلي» القائم على المداورة الشاملة ومن دون أي استثناء بحال أظْهر الثنائي الشيعي تَمَسُّكه بالإصرار على لائحة من 10 أسماء ليختار بينها الرئيس المكلف، وبتسمية (الثنائي) وزرائه الآخَرين، وهو ما سيفتح الباب لسائر الأطراف السياسيين بالمطالبة بالمعاملة بالمثل وتالياً نسْف معايير التأليف الأساسية.

وفيما كانت الأوساط نفسها تُبْدي اقتناعاً بأن الثنائي الشيعي سيتعاطى مع تَراجُع الحريري على أنه، ومن ورائه باريس، «أوّل مَن صرخا في لعبة عضّ الأصابع» كمقدّمةٍ لجولات جديدة من «خُذ وطالِب» لحصْد كل المكاسب (وبينها التراجع عن لمرة واحدة التي تنْزع المكسب الميثاقي للمكون الشيعي في المالية)، فإنها قرأتْ في الإيجابية التي حاول بري إشاعتها أمس عبر ما نُقل عنه من أنه «رحّب ببيان الحريري الذي يُبنى عليه إيجاباً» وصولاً إلى القول «مش مطوّلة (ولادة الحكومة) لأن ما بقا فينا نحمل» محاولةً لتفادي التظهير المبكّر لمسؤولية الثنائي الشيعي عن إحباط «تمريرة» الحريري وترْك قوى أخرى «تحرقها».

وفي هذا الإطار بدا البيان الذي أصدره مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية أمس بمثابة «بطاقة صفراء» بوجه مبادرة الحريري التي كانت بعض الأوساط تصوّب عليها من «زاوية طائفية» لجهة أنها تُعطي انطباعاً، ولو غير مقصود، بأن مفتاح الحل والربط في الملف الحكومي سني – شيعي وذلك بمعزل عن الدور المسيحي الذي جاء كسْر مبدأ المداورة (ولو المشروط) وللمفارقة قافزاً فوق موقفين:

أولهما الرئيس ميشال عون الذي كان أعلن الاثنين رفْضه وفْق مرتكزات دستورية تخصيص أي حقيبة لطائفة وصولاً لاقتراحه «إلغاء التوزيع الطائفي للوزارات السيادية (المال والدفاع والداخلية والخارجية) وعدم تخصيصها لطوائف محدّدة»، في موازاة انتقاده أن الرئيس المكلف «لا يريد الأخذ برأي رؤساء الكتل بتوزيع الحقائب وتسمية الوزراء». والأهمّ الموقف الثاني للكنيسة المارونية التي ذهب رأسها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى السؤال «بأي صفة تطالب طائفة بوزارة معينة كأنها ملكٌ لها وتعطّل تأليف الحكومة، حتى الحصول على مبتغاها؟».

وكان لافتاً أن المكتب الإعلامي لعون عاود «بإزاء المواقف والبيانات، وما تم تداوله إعلامياً بشأن تشكيل الحكومة، وحرصاً على المبادرة الفرنسية وتشكيل حكومة مهمّة من أخصّائيين مستقلّين للقيام بالإصلاحات اللازمة» تأكيد «مضمون البيان الذي صدر عن رئيس الجمهورية يوم الاثنين»، مع التذكير بأنّ الدستور ينصّ صراحة على «أنّ رئيس الجمهورية يصدر، بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة، ما يعني من دون أي اجتهاد أو اختزال أو تطاول على صلاحيات دستورية، أن رئيس الجمهورية معنيّ بالمباشر بتشكيل الحكومة وإصدار مرسوم التشكيل بالاتفاق مع الرئيس المكلّف».
واذ اعتُبر موقف عون بمثابة إشارة إلى أنه لن يسلّم بأي تفاهماتٍ لا يكون جزءاً منها، وسط أسئلة حول مغزى البيان و رسائله خصوصاً الكلام عن الوزراء «المستقلّين» بعدما كان تمايز عن «حزب الله» متمسكاً بالمداورة الشاملة، تساءلت الأوساط إذا كانت مجمل هذه المناخات تجعل مبادرة الحريري أقرب إلى «ضَربة سيف في الماء».

وكان سبق بيان عون موقف للرئيس المكلف أعلن فيه «حرصه على تشكيل حكومة مهمة ترضي جميع اللبنانيين وتعمل على تنفيذ ما جاء في المبادرة الفرنسية من إصلاحات»، مجدداً تأكيد «التزامه بالثوابت التي أطلقها في أن تكون الحكومة من ذوي الاختصاص وأصحاب الكفاءة القادرين على نيل ثقة الداخل كما المجتمعيْن العربي والدولي».