حالة “حرق أعصاب” يعيشها اللبنانيون وخياراتهم أضحت اليوم محصورة بين “جمر جهنم” و”تجرّع السمّ”. مصيبتهم أنهم أسرى منظومة حاكمة تحكّمت بمصائرهم فقادتهم نحو الخراب واقتادتهم مخفورين إلى أسفل سافلين اقتصادياً ومالياً واجتماعياً، ولا يزال من بين أركان هذه المنظومة من يبحث عن فتات مغانم وحصص على موائد السلطة الخاوية! فرصة تلو فرصة ضاعت على بلد حاصرته قوى 8 آذار وعزلته عن الأشقاء والأصدقاء فلم يعد له معيل عربي ولا معين غربي، حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه يكاد يلعن الساعة التي فكّر فيها بمساعدة اللبنانيين بعدما أذاقه “الثنائي الشيعي” الأمرّين وحوّل مبادرته من فرصة للإنقاذ إلى فرصة للابتزاز. وبالأمس جاء كلام العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ليشخّص بلا مداراة ولا مواربة بيت الداء والدواء في الحالة المرضية اللبنانية: “هيمنة حزب الله على اتخاذ القرار في لبنان وتدميره مؤسسات الدولة الدستورية وتسببه نتيجة هيمنته هذه بانفجار المرفأ”، لينتهي إلى التشديد على خلاصة سعودية حاسمة: “الشعب اللبناني الشقيق لن ينعم بالاستقرار والرخاء إلا بتجريد حزب الله من السلاح”.
موقف حدّد من خلاله الملك سلمان “السقف السعودي” لعودة الأمور إلى مجاريها الطبيعية بين العرب ولبنان وهو “نزع سلاح حزب الله وكل الباقي تفاصيل”، حسبما لاحظت مصادر مواكبة، مؤكدةً لـ”نداء الوطن” أنّ “كل سياسات الترقيع لم تعد قادرة على إخفاء معالم الجرح العميق الذي خلفته طعنات “حزب الله” في جسم العلاقات السعودية – اللبنانية من خلال إمعان الحزب بتنفيذ أجندة إيران العسكرية الساعية إلى تمزيق المنطقة العربية”. وشددت المصادر على أنّ كلام العاهل السعودي أتى “بالمختصر المفيد” ليؤكد أمام العالم، ومن على أعلى منبر أممي، أنّ لبنان في عيون الرياض هو دولة “ساقطة عسكرياً” بيد “حزب الله التابع لإيران” ولا خلاص لهذه الدولة إلا بالتحرر من قبضة الحزب وسلاحه.
وبانتظار اتضاح انعكاسات الموقف السعودي على المشهد الداخلي وما إذا كان “حزب الله” سيرفع منسوب التشدد في الملف الحكومي رداً على هذا الموقف، ثمة في المقابل من يرى أنّ “الثنائي الشيعي” لن يغامر بقطع الحبل الإنقاذي الممدود بين باريس وبيروت، خصوصاً في ظل الهجمة الدولية والعربية الشرسة التي يتعرض لها محوره في لبنان كما في المنطقة، بل هو سيعمد إلى التقاط الفرصة قبل ضياعها. ومن هذا المنطلق، لوحظت خلال الساعات الأخيرة مسارعة الثنائي الشيعي إلى استلحاق طرح الرئيس سعد الحريري الإنقاذي للمبادرة الفرنسية لا سيما بعدما تلقى هذا الطرح دعماً قوياً من جانب باريس التي وصفت إعلان الحريري بأنه “شجاع ويمثل نافذة على الجميع إدراك مدى أهميتها من اجل تشكيل حكومة مهمة الآن برئاسة مصطفى أديب مؤلفة من شخصيات مستقلة ومتخصصة يختارها بنفسه”.
وبينما كان المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش ينوه بمبادرة الحريري ويؤكد وجوب “تعاطي القادة السياسيين الآخرين مع مثل هذا النهج بإيجابية مماثلة من دون وضع العراقيل السياسية”، حذّر وزير خارجية فرنسا جان إيف لو دريان خلال الاجتماع الذي عقد حول الملف اللبناني على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة القوى السياسية اللبنانية من أنّ عدم نجاحها في التوافق على تشكيل حكومة أديب سيقابل بفرض “ضغوط قوية ومتحدة” من جانب فرنسا والمجتمع الدولي، منبهاً إلى أنّ “مستقبل لبنان أصبح على المحك، ومن دون إصلاحات لن تكون هناك مساعدات مالية دولية”.
وتحت اشتداد وطأة “كماشة” الضغط الفرنسي والإحراج الداخلي الذي تسبب به الحريري للثنائي عبر طرحه توزير شيعي في حقيبة المالية يسميه الرئيس المكلف، يبدو أنّ الثنائي الشيعي أدرك أن لا مفرّ أمامه ولا مخرج لمأزقه سوى بتلقف مبادرة الحريري التي فتحت كوة بجدار التصلب الحكومي، ونقلت مصادر مطلعة على موقف الثنائي لـ”نداء الوطن” أنّ “القرار اتخذ بتجاوز السلبيات الشكلية التي رافقت هذه المبادرة والبناء على جوهرها”، كاشفةً أنّ “الثنائي الشيعي أرسل رسائل إيجابية تؤكد استعداده لملاقاة طرح الحريري وباشر بالبحث في كيفية تدوير الزوايا الحادة في هذا الطرح توصلاً إلى اختيار وزير للمالية يتم التوافق عليه بالتشاور بين الطرفين (الشيعي والسني) بشكل لا يظهر أحد بمظهر المنكسر”، ومن هنا جاء ما نقله أحد النواب عن رئيس مجلس النواب نبيه بري لناحية تأكيده أنّ الأمور ستتحرك خلال ساعات “لأن ما بقى فينا نحمل”.
وبالتوازي، أكدت مصادر مواكبة للاتصالات الحكومية لـ”نداء الوطن” أنّ الجانب الفرنسي كثف خلال الساعات الأخيرة اتصالاته مع الحريري وبري وأبدى تصميمه على وجوب إيجاد حل سريع لعقدة وزارة المالية. غير أنّ المصادر لفتت في المقابل الانتباه إلى أنّ بوادر امتعاض رئاسي رصدت في أروقة قصر بعبدا أمس على خلفية ما اعتبره رئيس الجمهورية ميشال عون تهميشاً لدوره في مستجدات الملف الحكومي، ولذلك سارع إلى “التكشير” عن صلاحيته في التوقيع على مرسوم تأليف الحكومة عبر بيانات وتسريبات إعلامية، بينما دفعت مبادرة الحريري رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إلى استنفار توقيع الرئاسة الأولى في معركة الحقائب والتسميات على قاعدة “التساوي مسيحياً مع المكون الشيعي وضرورة تسمية رئيس الجمهورية الوزراء المحسوبين عليه”، كاشفةً في هذا الإطار أنّ عون “سيصرّ على تسمية وزارئه في الحكومة العتيدة وسيطالب بأن تكون حقيبة الدفاع من حصته، ولن يرضى بأن تخضع التسمية في الحقائب المسيحية إلى مشيئة الرئيس المكلف”.
وإزاء المشهد الحكومي المتأرجح بين عقدة وأخرى، أعربت المصادر عن اعتقادها بأنّ كل العقد ستكون آيلة إلى الزوال في حال حلت عقدة المالية، وختمت: “لسنا بعيدين جداً ولا قريبين جداً من التأليف، لكن الأكيد أنّ الأمور تحرّكت وستصل إلى خواتيمها”.