كتب رامح حمية في صحيفة “الأخبار”:
في مثل هذه الأيام من كل عام، تعلو الصرخة في قرى غربي بعلبك التي تتغذى من مياه اليمونة. ينتفض هؤلاء بعدما تبوء كل محاولاتهم لاسترجاع حقهم بـ«المونة»، فلا يعود أمامهم سوى الصراخ لاستعراض معاناة عمرها عقد ونصف عقد من الزمن. هي «أكبر» من حكاية إبريق الزيت، يقول الأهالي الذين فقدوا حقّهم بالاستفادة من مياه ينابيع اليمونة. إذ رغم عيشهم على ضفاف اليمونة، يضطر هؤلاء لشراء المياه بالصهاريج لسدّ حاجتهم منها، بسبب «سلبطة» بعض الزعران على المياه، وبيعها والتصرف بها وكأنها ملك خاص، على عين الدولة.
43 قرية من قرى غربي بعلبك تُحرم من المياه بسبب مجموعة من الأشخاص لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، فيما مؤسسات الدولة المعنيّة بهذا «القطاع» تقف متفرّجة، وإن كانت على قناعة تامة بأن ما يفعله هؤلاء سرقة موصوفة.
ليست المسألة مسألة عطش الأهالي، وإنما ترك هؤلاء الأهالي لحكم الزعران، علماً أن كل المسؤولين يعرفون هوية المعتدين على شبكة المياه. صحيح أن الجيش اللبناني عمل قبل نحو ثلاث سنوات على قمع تلك المخالفات، وكانت الكلفة يومها سقوط «دم»، إلّا أن القمع لم يستمر طويلاً، إذ عاد المعتدون إلى ممارساتهم السابقة مع بعض التعديلات. ففيما كانوا، سابقاً، يقطعون «سُكر» المياه عن القرى لريّ المحاصيل الزراعية، وسّعوا اليوم نطاق عملهم. إذ إضافة إلى ري المحاصيل، بدأوا تجارة بيع المياه للمزارعين مقابل بدل مادي «ع الليلة»، على ما يقول أحد المزارعين. وأدى ذلك إلى ترك عدد من المزارعين القرى التي لا تتوفر فيها المياه واللجوء إلى سهول البلدات التي تتغذى من مياه اليمونة، مثل سهول بوداي وشليفا والعلاق والحفير والسعيدة. ويروي أحد المزارعين أن «غالبية المزارعين الذين لجأوا إلى بلداتنا هم من كبار مزارعي البطاطا اللقيسة الذين يستأجرون عشرات الدونمات ويروونها بطريقة الجرّ وبكلفة لا تتخطى المليون ليرة في الليلة الواحدة». وهي كلفة ضئيلة، إذا ما قورنت بحاجة المزارعين اليومية إلى مادة المازوت لتوفير الري.
يحدث كل ذلك، فيما المسؤول عن القطاع يقف متفرجاً، بحجة أن ما باليد حيلة. هكذا، مثلاً يحلو لمدير عام مؤسسة مياه البقاع، رزق رزق، الحديث عن القضية «الخارجة عن إرادتنا»، فيشير إلى أن التعدّيات باتت لا تُحصى، لافتاً إلى وجود «28 فتحة على طول قناة المياه في دار الواسعة قبل أن تصل إلى الشلال وتدخل في خط الـ 16 إنش الذي يغذّي قرى غربي بعلبك». وحتى هذه الشبكة، من بعد دار الواسعة، لا تتوقف عليها التعديات، إذ إن الكل «يشترك» في التعدي من بوداي إلى مزرعة الضليل وصولاً إلى السعيدة. إذاً، لماذا لا يتم قمعها؟ يحمّل رزق المسؤولية للأجهزة الأمنية التي «لم تجِب على عشرات الكتب الخطية والإحالات التي طالبنا فيها المؤازرة لقمع المعتدين على مياه اليمونة وتوقيفهم، كما لجأنا إلى القيادات الحزبية وفعاليات المنطقة، إلا أن الجميع يبدي الإيجابية والرغبة في المساعدة وتقديم الدعم والمؤازرة، لكن عند العمل يقف موظفو المؤسسة بمفردهم عاجزين عن تأدية وظيفتهم ويتعرضون لاعتداءات وإطلاق نار».
من يقيمون على ضفاف اليمونة يشترون المياه لسدّ حاجتهم منها
ما يقوله رزق ينفيه مسؤول أمني رفيع، إذ أكد «عدم تواني الأجهزة الأمنية عن القيام بواجبها تجاه قمع الاعتداءات على مصادر مياه اليمونة»، محمّلاً بدوره جزءاً من المسؤولية لـ«مؤسسة مياه البقاع وموظفيها، فقد عرضنا كجهاز أمني مرات عدة على المؤسسة الكشف على الشبكة بشكل كامل بغية كشف أماكن التعديات لنتمكّن من مراقبتها، إلا أننا قوبلنا بالصمت وعدم الرد». وسأل: «هل المطلوب من الأجهزة الأمنية أن تحرس كامل شبكة مياه اليمونة، ويتحول عناصرها إلى موظفي مياه؟».
«الطاسة ضايعة»، والمسؤولون يتقاذفون المسؤوليات، فيما الأهالي تحت رحمة الزعران. يفقدون حقهم علانية، ولا يملكون حقّ الاعتراض. فمتى تستدير الدولة نحو مواطنيها؟