عاشتْ بيروت، أمس، حالَ انتظارٍ ثقيلٍ كانت الأنظارُ خلاله شاخصةً على فتْح أول خطوطِ تَواصلٍ بين الرئيس المكلف تشكيل الحكومة مصطفى أديب وكلٍّ من رئيس الجمهورية ميشال عون وممثّلي الثنائي الشيعي، «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري، في سياق استكشاف قابلية مبادرة «تَجَرُّع السمّ»، التي أطلقها زعيم «تيار المستقبل» الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري على إخراج مسار التأليف من المأزق و«عزْله» عن الصراع المتعدّد الفتائل في المنطقة.
وكانت الأسئلةُ التي تجرّ أسئلةً هي عنوان المشهد اللبناني قبيل اجتماعٍ اعتُبر مفصلياً عُقد عصر أمس، بين أديب ومستشار بري الوزير السابق علي حسن خليل والمعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله» حسين خليل باعتبار أنه سيحمل أول جواب رسمي من الثنائي الشيعي على اقتراح الحريري القبول بحصول «استثناءٍ لمرة واحدة» يُبْقي حقيبة المال مع هذا المكوّن ولكن على ألا يكون ذلك تكريساً لعُرْفٍ وعلى أن يسمّي الرئيس المكلف الوزير الذي سيتولاها وفق معيارٍ عاودت باريس رسْم خطٍّ متشدّد حوله وعنوانُه «أديب يختار وزراءه الاختصاصيين المستقلين».
ولم يكد لقاء أديب – الخليلين أن يبدأ حتى جاءت التسريباتُ عن أنهما «يحملان مجموعة أسماء سيقترحانها لتولي وزارة المال والوزارات العائدة للطائفة الشيعية» (3 في حال كانت الحكومة من 14 وفق تَصوُّر الرئيس المكلف)، لترفع منسوبُ التشاؤم من آفاق الملف الحكومي، قبل أن يبرز مساءً مناخٍ آخَر أوحى بأن اللقاء كان إيجابياً رغم عدم تطرّقه إلى مسألة مَن يسمّي الوزراء الشيعة، وسط معلوماتٍ عن أن تفاهماً مكتوماً عابراً للحدود حصل برعاية فرنسية ويرتكز على أن يختار أديب أقله وزير المال من بين أسماء غير مستفزّة يقترحها الثنائي الشيعي، وأن أي تعقيداتٍ أخرى سيتم تذليلها عبر «كاسحة الألغام» الفرنسية في ضوء القناة المفتوحة بين الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الجمهورية ميشال عون، وأن ثمة اقتناعاً لدى «حزب الله» خصوصاً بأن «حكومة الإصلاحات» ستكون بلا أدوار سياسية.
ورغم هذا الجوّ المستجدّ والذي تبقى خواتيمه رهن الأيام المقبلة، لم تتوانَ أوساط سياسية عن اعتبار أن لبنان بات بين «فكّيْ كماشة»:
أوّلها أن التأليف وفق شروط «حزب الله»، مواربةً أو مباشرةً، سيشكّل تطويعاً لمبادرة باريس لا يُعرف ماذا ستكون نتائجه، خصوصاً أن ماكرون يحلّق أصلاً فوق حقل الألغام اللبناني بلا «جناحٍ» عربي داعِم ما لم يكن أفق مسعاه يرتكز على تقليم أظافر «حزب الله»، وبنصْف جناح أميركي يراقب بعين حمراء أي تراجعاتٍ تغطيّها فرنسا وتكسر حلقة الضغط الأقصى على الحزب من ضمن المكاسرة المحتدمة مع إيران.
وثانيها أن التطويق الخانِق للمبادرة الماكرونية، أي تقويضها بالكامل سيعني فتْح الواقع اللبناني على سيناريواتٍ كارثية سياسياً ومالياً واقتصادياً هو الذي يبدو وكأنه يقيم فوق فوهة فواجع إضافية باتت قاب قوسين من الانفجار في الوضع المعيشي – الاجتماعي الذي تتقاذفه موجات الجوع والفقر الآخذة في التمدد، باعتبار أن سحْب فرنسا يدها من الفرصة الأخيرة لمنْح بيروت «وقتاً مستقطعاً» من رحلة السقوط المتدرّج في طبقات الجحيم ومظاهره «الحارقة» سيعيد البلاد إلى مربّع العزلة الشاملة التي فكّتها جزئياً «جريمة بيروتشيما» التي هزّت العالم.
ولم يكن عابراً في رأي الأوساط نفسها أنه على وقع وقوف الداخل على مشارف تَلَمُّس المواقف الحقيقية من مختلف الأطراف المعنية من مبادرة الحريري التي غطّتْها باريس بوصْفها «عرْضاً لا يتجزّأ»، هبّتْ مواقف دولية عكستْ بوضوح واقع الحبل المشدود الذي يسير عليه لبنان، وبدا من غير الممكن عدم أخْذها في الاعتبار في إطار استشراف مصير الملف الحكومي ولعبة «مَن يصرخ أولاً» المستعرة على تخومه. وأبرزها:
* كلام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي أطلق مضبطة اتهام بالمباشر لـ«حزب الله الإرهابي التابع لإيران الذي يهيمن على اتخاذ القرار في لبنان بقوة السلاح»، معتبراً تجريده من سلاحه من مرتكزات استقرار لبنان ورخائه، الأمر الذي اعتُبر بمثابة «تأكيد المؤكد» حول أن الرياض ودول الخليج عموماً لن تكون في وارد كسْر حال «نفْض اليد» من أي عملية إنقاذية لبلاد الأرز ما لم يكن ذلك من ضمن «إصلاح سياسي» في تموْضع لبنان الاستراتيجي والتوازنات فيه التي جعلت الحزب صاحب التحكّم والسيطرة بمختلف السلطات.
* توعُّد «صاحب المبادرة» أي باريس بلسان وزير خارجيتها جان إيف لودريان، في كلمته أمام أعضاء مجموعة الدعم الدولية للبنان، الطبقةَ السياسية في بيروت ما لم يتم «تشكيل حكومة الآن»، داعياً «الشركاء الدوليين لزيادة الضغط على المسؤولين اللبنانيين لتشكيل حكومة جديدة واحترام التزاماتهم»، محذّراً «مرة أخرى من أن وصول المساعدات المالية الحيوية مشروط بإجراء الإصلاحات، فمستقبل لبنان على المحك».
* تتويج واشنطن هذا المسار الضاغط عبر موقفيْن لكل من الديبلوماسي ديفيد هيل، الذي يتابع الملف اللبناني عن كثب، كما المبعوث الخاص بإيران إليوت أبرامز، ثبّتا مقاربة الولايات المتحدة للواقع اللبناني من زاوية المواجهة الكبرى مع طهران وأذرعها وفي مقدمها «حزب الله».
فهيل أعلن «أن إيران قدّمت المليارات من واردتها من النفط لحزب الله الذي يهدّد أمن لبنان، وعندما يلتزم قادته بالتغيير فإن أميركا ستقدم المساعدات اللازمة»، فيما اعتبر أبرامز «أن حزب الله يقوّض مصالح الشعب اللبناني بتخزين الأسلحة».
ولم تحجب هذه الخلفيات التي تشكّل مسرحَ العمليات الإقليمي الذي تدور عليه معركة تأليف الحكومة، تفاصيل الحِراك الداخلي الذي كان الأبرز فيه لقاء أديب – الخليلين الذي جاء غداة اتصالٍ الرئيس المكلف بالرئيس عون بعيْد قرْعه «جرس التذكير» بأنه شريكٌ مُقَرِّر في التأليف وأنه لن يقبل بـ«البصْم» على تسويةٍ ثنائية (المستقبل – الثنائي الشيعي) وكأنّها «مفتاحُ» التشكيل، وسط تَضارُب في المعلومات ساد بدايةً في وسائل إعلام اللبنانية حول خلاصات هذا اللقاء الذي ظلّله انخراط مختلف أفرقاء الداخل في اليومين الماضييْن في لعبة «انتظارٍ» ثقيل لـ«الخطوة» التالية بعد مبادرة الحريري وإجراء حسابات التسهيل أو الإفشال وفق المقتضيات التي تراعي الوهج الإقليمي وتتكيّف مع موجبات إما الانحناء أمام العاصفة أو الوقوف في «عيْنها».
وتَرافق خيْط التفاؤل الذي التُقطت إشاراته مساءً بإمكان الإفراج عن الحكومة قريباً مع سيل من الأسئلة سرعان ما أطلت برأسها حول ما سيترتّب على أي تسليمٍ للثنائي الشيعي باختيار وزرائه الثلاثة أو أقله وزير المال ولو من «تحت الطاولة»، في ظل تقارير عن اسم جاهِز اقترحه بري (يحمل الجنسية الفرنسية وقيل إنه يعمل في فريق ماكرون) ويدعى أحمد محمود شمس الدين، وسط علامات استفهام حول كيف سيتلقّف الخارج أي حكومةٍ يُشتمّ منها أنها نسخة شبيهة بـ«حكومة الأقنعة» المستقيلة التي ترأسها حسان دياب باعتبار أنها ستكون محكومةً بـ«موتٍ سريري» منذ ولادتها في ضوء الخطوط الحمر الدولية حول تكرار مثل هذه التجربة.