Site icon IMLebanon

لبنان… آخر محطة قبل الجحيم!

كتب راجح الخوري في “الشرق الاوسط”:

ليس في الإليزيه سوى الهمّ اللبناني، ولكن ليس في لبنان حتى غير تندّر الناس المؤلم بعد قول الرئيس ميشال عون إنه إذا لم تُشكّل الحكومة فنحن «رايحين إلى جهنم». طبعاً لا داعي إلى التوقف عند إجماع الشعب اللبناني على السخرية المرة والقول: «ولكننا في جهنم»، لكن رغم كل هذا يبدو أن الرئيس إيمانويل ماكرون مصمم وبعناد على سحب لبنان من بوابات الجحيم، ربما لأنه يكفي البلد المنكوب جهنم انفجار المرفأ، وجهنم الإفلاسات والجوع ومواجهة خطر الزوال، كما يحذر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان تكراراً.

يوم الثلاثاء الماضي أمضى ماكرون وقتاً طويلاً على الهاتف، أولاً مع الرئيس سعد الحريري، وثانياً مع الرئيس نبيه بري، في محاولة تبدو الأخيرة لحل عُقدة الخلاف على تشكيل ما سمّاها في البداية «حكومة مهمة إنقاذية من اختصاصيين بعيدين عن السياسيين»، وكان قد وضع لها برنامجاً محدداً، وافق عليه كل الأفرقاء بداية أيلول الماضي، وكان يُفترض أن تشكَّل الحكومة خلال 15 يوماً، لكن التخريب الإيراني دخل على الخط فوراً، ودفع الثنائية الشيعية، أي «حركة أمل» و«حزب الله»، إلى وضع شروط وعراقيل لا تتنافي مع الاتفاق المذكور فحسب، بل تتنافي من روح الدستور والأعراف المتّبَعَة في لبنان.

كان الأمر مفاجئاً ومستغرَباً أن تشترط الثنائية الشيعية أمرين: الأول أن تكون وزارة المالية من حصتها دائماً في الحكومات، وهذا يتنافى مع الدستور، وأن تقوم هي بتسمية وزرائها في الحكومة، وهذا يجعل من الرئيس المكلف ومن رئيس الجمهورية مجرد صندوقي بريد. أضف إلى ذلك أن الاتفاق أصلاً كان على حكومة وزراء من الاختصاصيين البعيدين عن السياسيين، فكيف صار هؤلاء يخرجون من رحم السياسيين؟ لقد قيل الكثير في بيروت عن التمسك بالمالية لألف سبب وسبب، لا تتوقف عند التنفيعات والتوظيفات الوهمية، وما إلى ذلك، بل تصل إلى حد القول إن المالية التي تولاها من قبل أيضاً وزراء سنة ومسيحيون، هي بمثابة الثقب الأسود الذي تضيع فيه المليارات، وأن أي عملية تدقيق جنائية في ملفاتها ستتكشف عن فضائح كبيرة.

كانت نتيجة اتصال ماكرون ببري والحريري، أن هذا الأخير فاجأ حتى زملاءه رؤساء الوزارات السُّنة السابقين، بإذاعة بيان مساء الثلاثاء قال فيه إنه يتجرع كأس السم مرة جديدة تسهيلاً للخروج من مأزق تشكيل الحكومة، وهو ما ذكّر الكثيرين بالتنازلات السابقة التي قدمها أمام «حزب الله»، وقال الحريري في بيانه إنه يقبل أن يتولى وزير شيعي وزارة المال لمرة واحدة لا تشكل عُرفاً دائماً، شرط أن يقوم الرئيس المكلف مصطفى أديب باختياره، ثم ألا يكون من حق الثنائية الشيعية إسقاط وزرائها في التشكيلة الحكومية.

قياساً على الموقف الشيعي المعقّد والمدفوع إيرانياً طبعاً، خصوصاً بعد وصول محمد جواد ظريف فجأة إلى بيروت في السادس من آب الماضي، عندما كان ماكرون يقوم بزيارته الأولى وتوجيهه انتقادات إلى خطته تشكيل «حكومة مهمة الإنقاذ»، ورغم الموقف الفرنسي المعارض لسياسة الرئيس دونالد ترمب العودة إلى العقوبات السابقة… بدا أن الأمر هو بصراحة مجرد قرار بزجّ لبنان المأزوم في أتون الصراع مع واشنطن حول العقوبات.

على خلفية هذا بدا واضحاً أن كأس السم الذي قال الحريري إنه يتجرعه تسهيلاً للحل يمكن أن يساوي، من منطلق الشروط التي وضعها، كأس سم أخرى على الثنائية الشيعية تجرُّعها، أولاً بالتخلي عن جعل وزارة المال من حصة الشيعة دائماً، وثانياً بقبول أن يقوم الرئيس المكلف تسمية الوزراء الشيعة الآخرين في حكومة الاختصاصيين، ولهذا وجدت الثنائية الشيعية في مبادرة الحريري مجرد خطوة إيجابية وليست حلاً، لجهة إسقاطها اعتبار وزارة المال من حق الشيعة دائماً، خلافاً للدستور والعرف في لبنان.

قول عون إنه إذا لم تُشكّل الحكومة «رايحين على جهنم»، اقترن بالقول إن التصلب في الموقفين الشيعي والسني لن يوصل لبنان إلى نتيجة، سوى المزيد من التأزم، ولهذا قدم اقتراحاً بإلغاء ذلك العُرف العجيب الغريب، في بلد يدّعي الديمقراطية البرلمانية، لكنه يقسّم الوزارات على أن بعضها سيادي يُخصَّص لطوائف معينة وبعضها عادي يُخصَّص لباقي الطوائف، مقترحاً أن يكون المعيار هو الكفاءة والقدرة على الإنجاز وليس الانتماء الطائفي، ولكنّ ذلك لن ينفع قطعاً وسط التوزيع الطائفي للوزارات السيادية.

بعد 24 ساعة على مبادرة الحريري التي رحبت بها الخارجية الفرنسية ووصفتها بأنها شجاعة وأنها تشكّل إعلاناً انفتاحياً يجب أن يقر بأهميته الجميعُ لكي يتم تشكيل حكومة المهمة، ودعت كل القادة السياسيين إلى احترام الالتزامات التي وعدوا بها الرئيس ماكرون، بدا أنه ليس من شيء جديد في الملف الحكومي، باستثناء تسريبات قالت إن الثنائية الشيعية قد تسلم الرئيس المكلف 10 أسماء شيعية للمالية فيختار منها واحداً فيما يشبه اللوتو الحكومي!

وأمام كل هذا كانت المفاجأة المثيرة أن عون الذي كان قد دعا إلى التسهيل، عاد إلى تفسير الدستور على طريقته طبعاً، حيث ذكّر بالمادة 53 والمادة 64 لجهة القول إن الحكومة تصدر بـ«الاتفاق» بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، بما يعيد الجدال حول المعنى الدستوري لكلمة الاتفاق، وهل تعني المشاركة في عملية التشكيل أو الموافقة على التشكيلة بعد مشاورات التكليف الملزِمة؟

المضحك المبكي طبعاً أن يكون لبنان الذي يواجه الانهيار والجوع والزوال، أشبه ببلد لقيط قد يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن تحت البند السابع يفرض عليه بالقوة تشكيل حكومة، ولهذا لم يكن غريباً أن يدعو لو دريان في كلمته أمام الأمم المتحدة إلى فرض ضغوط قوية ومتقاربة من المجتمع الدولي، من أجل تشكيل حكومة في لبنان وإخراجه من أزمته الخانقة، وقال إن فرنسا تسعى لتحقيق هذه الغاية كعديد من المشاركين (فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، والولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية).

لكن ما يثير الغرابة الشديدة هنا أن عون الذي خاطب الجمعية العامة عبر تقنية الاتصال الإلكتروني، لم يتردد في توجيه مناشدة حارّة إلى الأمم المتحدة ودول العالم لتقديم المساعدات الضرورية إلى لبنان، الذي يسمع منذ أشهر كلمة واحدة من كل دول العالم تقريباً، أي «ساعدوا أنفسكم لنساعدكم»، والأكثر غرابة أن الرئيس الفرنسي الذي صار لبنان هماً يومياً يأكل من صحنه، والذي يسهر ليل نهار على دفع اللبنانيين إلى التفاهم وتشكيل حكومة تنقذ البلاد من السقوط في الجحيم الذي أشار إليه عون، كان قد وعد بأنه على استعداد لرعاية مؤتمر دولي الشهر المقبل لدعم لبنان ومنعه من الانهيار النهائي، ولكننا ويا لمرارة السخرية نخاطب الأمم المتحدة طالبين دعم دول العالم، من دون أن نتذكر كلمة واحدة:

ساعدوا أنفسكم لنساعدكم… أوقفوا وحش الفساد والنهب، وإلى الإصلاح والإصلاح والإصلاح.