كتب أنطوان الأسمر في صحيفة “اللواء”:
يلحظ متابعو المراحل الأخيرة من الانتخابات الرئاسية الأميركية، مدى احتدامها والدرجة الخطرة التي بلغها التخاطب بين المتنافسَين الجمهوري والديمقراطي. من جهة، يدعو جو بايدن الى Massive Black Vote، أي تصويت أسود هائل نسبة الى الأميركيين من أصل أفريقي الذين هالهم الخطاب العنصري الذي ذهب اليه يمينيو الحزب الجمهوري، ومن جهة أخرى يتحصّن دونالد ترامب بالإنجيل ليرد عنه غضب الشارع، فيما يدق المحافظون الجدد ناقوس الحفاظ على طبيعة النظام السياسي الذي يحكم الولايات المتحدة منذ أرساه الآباء المؤسسون، هذا النظام الذي يرونه مهددا بالخطاب الليبرالي الحديث للحزب الديمقراطي. ويستندون في نفيرهم، الى واقعة أن إحصاءً أخيرا بيّن أن 4 من كل 10 أميركيين «ليبراليين جدًا» يدعمون تغيير علم الولايات المتحدة واسمها إلى آخر «يعكس بشكل أفضل مساهمات الأميركيين الأصليين وتنوعنا كشعب». بينما يدعم 7 من كل 10 ليبراليين نشيدا ودستورا جديدين.
من الواضح أن الخيارات الشعبية الأميركية في انتخابات تشرين الثاني والنقاشات الحاصلة على مستوى قواعد الحزبين الجمهوري والديمقراطي مغايرة جذريا عن الانتخابات السابقة. فالنقاش في تغيير النظام هو من طبيعة متقدمة. صحيح أنه كان دائم الحضور (الانفصال عن الاتحاد كخطاب دارج في عدد من الولايات) لكنه لم يصل الى هذين العمق والدرجة من الحدية. وثمة من يقول إن الفترة التي ستلي الانتخابات، بصرف النظر عن نتيجتها، ستكون فترة فوضوية ودموية، تتهدد جديا النظام الاتحادي. وتُستعمل راهنا عبارة Empires Implode (الاهتراء الداخلي المؤدي تاريخيا الى انهيار الإمبراطوريات الكبرى) للدلالة الى عمق الأزمة وخطورتها.
في الأولويات الأميركية راهنا، يظهر الآتي:
أ-يلقي وباء كوفيد-19 بثقله واسعا ويعدّ من العوامل الحاسمة للاتجاهات الانتخابية، وهو ما يدركه دونالد ترامب ويجهد في سبيل كسب الرهان على الانتهاء من اللقاح وتوزيعه قبل اليوم الرئاسي، الثلثاء 3 تشرين الثاني، في موازاة إصراره على إعادة إطلاق دينامية الاقتصاد الذي يخوض راهنا غمار انكماش غير مسبوق منذ الازمة الاقتصادية (2007- 2008)، نتيجة ملايين العاطلين عن العمل وتعطّل الآلاف من الشركات.
ب-يوسّع خطاب الرجل الأبيض الشرخ بين قواعد الحزبين المتنافسين. يعود الجمهوريون بقوة الى أدوات عمل المحافظين الجدد والإنجيليين واللوبي الصهيوني، مستندين الى التخويف من عوامل زيادة الهجرة الى الولايات المتحدة باعتبارها تهديدا لنمط عيش الاميركيين، بغية شد العصب لدى قواعدهم وكذلك بهدف استقطاب الشرائح المترددة وهي غالبا ما تشكل وزنا هائلا يفوق وزن المحازبين الجمهوريين والديمقراطيين، وتاليا يصبح استقطابها عاملا حاسما في نتيجة الانتخابات.
في المقابل، يستغل الديمقراطيون هلع الأقليات الملونة والمذهبية من خطاب الرجل الأبيض باعتباره خطابا عنصريا، ويطرحون تغييرات في صلب النظام لإراحة تلك الطبقة، والأهم استقطابها للتصويت الى مرشحهم. من هنا كانت دعوة الليبرالية الحديثة الى إحداث تغيير دستوري جذري يحفظ التنوع العرقي والطائفي، الأمر الذي يرونه مهددا بفعل الخطاب اليميني.
ج-تغيب السياسة الخارجية عن اهتمام الاميركيين، فيما يحصر ترامب تركيزه على الملف الإيراني الذي يراه قابلا لتجيير انتصار شخصي له يقلّص الفارق مع بايدن، الى جانب المسألة الصينية التي يوليها أيضا أهمية انطلاقا مما يسميه الخطر الاقتصاد والوبائي المتأتي من البلاد الصفر. كما يعوّل على اتفاقات السلام التي يصوغها بين إسرائيل وعدد من الدول الخليجية من أجل تعزيز كسبه الصوت اليهودي.
د-لا يُسجل للبنان أي حضور في اهتمام الحزبين المتصارعين على حد سواء، فهو ليس على أي من الأجندتين الرئاسيتين، باستثناء ما جاء في مانيفيست الحزب الديمقراطي لجهة «تقديم الدعم والأمن للبنان والأردن، البلدين اللذين يستقبلان عددا غير متكافئ disproportionate من اللاجئين»، الى جانب ذكر حزب الله في معرض الإشارة الى أن «الأفعال الإيرانية المزعزعة، بما فيها دعمها التنظيمات الإرهابية كحماس وحزب الله (…)».
في خضم كل ذلك، ثمة في بيروت من يرى أنه إذا كانت الولايات المتحدة تخوض راهنا نقاشا في طبيعة النظام الذي يؤمّن تفوقها منذ عشرات السنين، فلماذا يُعاب نقاش مماثل على اللبنانيين الذين يعانون اللايقين واللااستقرار نتيجة عقم الدستور الناظم وثغراته الكثيرة المعطّلة لأي تطور والدافعة نحو تدمير ذاتي للبلد وتعريته من عوامل كينونته، وربما تهجير مسيحييه كعنوان التقاء أخير لدى جناحه الآخر!