«حافةُ الموت»… للشعب بـ «كورونا» وفق النموذج الإيطالي، من الجوع، من الوجع… للدولةِ من الاختناق السياسي بأزمات مستعصية تلتفّ حول عنق النظام بحبال الصراع الإقليمي الكبير الذي رُبطت به البلاد عنوةً… للواقع المالي – الاقتصادي من الانهيار المريع الذي تتسارع خطاه في الطريق السريع إلى النموذج الفنزويلي.
هذا المشهد البالغ القتامة قَبَضَ على بيروت في اليوم الثاني على تَداعي آمال «الرَمَق الأخير» في أن تنجح المبادرةُ الفرنسيةُ بإعطاء لبنان جرعةَ أوكسجين تعزّز قدرته على الصمود في المرحلة الانتقالية الإقليمية – الدولية عبر «عازِلٍ إصلاحي» تُعَلَّق معه العناوينُ السياسيةُ الاشكاليةُ ذات الصلة بوضعية «حزب الله» أو يكون بالحدّ الأدنى «مانِعة تَسَرُّبٍ» لضغط الحدّ الأقصى الأميركي على الحزب من ضمن المواجهة الكبرى مع إيران.
وفيما كانت كل الأنظار شاخصة أمس على الإطلالة البالغة الدلالات للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على الواقع اللبناني غداة تخريب المبادرة التي رمى فيها بثقله الديبلوماسي منخرطاً في «مخاطرةٍ كبرى» من شأن مآلاتها أن تؤثر في الرصيد الذي يُراكمه فوق سفوح أزمات المنطقة والتوتر في شرق المتوسط، جاءت مواقف سيد الاليزيه الصاعقة لتؤكد أن لبنان بات أمام خياريْن لا ثالث لهما «إما خريطة الطريق الفرنسية التي يوافق عليها المجتمع الدولي وإما السيناريو الأسوأ أي إعلان الحرب ضدّ (حزب الله) لينهار ومعه لبنان وهذا ما أرفضه الآن»، محذّراً «قاومتُ أصوات البعض في المنطقة الذين أرادوا السيناريو الأسوأ ووقفتُ بوجههم واليوم الموضوع بيد الرئيس نبيه بري و(حزب الله) هل يريدون إدخال لبنان بالسيناريو الأسوأ؟»، وممهلاً القادة اللبنانيين بين 4 و 6 أسابيع فـ«إما تحدث صدمة إيجابية وإلا ستأتي الصدمات من الداخل والخارج وأنا أبذل جهدي لتجنب ذلك».
ورغم أن ماكرون لم يوفّر أياً من الطبقة السياسية في سياق توزيعه المسؤوليات عن «الخيانة الجماعية» بإفشال تشكيل «حكومة المهمة» برئاسة مصطفى أديب «وعلى رأسهم الرئيس ميشال عون»، هاجم «حزب الله» في شكل غير مسبوق متّهماً إياه بأنه مسؤول عن «نظام الرعب» القائم على الفساد، ومعلناً «لا يمكن الحزب أن يكون ميليشيا تشارك في الحرب في سورية ومحاربة إسرائيل وأن يكون حزباً محترماً في لبنان وعليه أن يحترم اللبنانيين جميعاً»، معتبراً أن «لا الحزب ولا حركة أمل يريدان التسوية، وهما قرّرا أنه يجب ألاّ يتغيّر شيء في لبنان وقالاها بوضوح إنهما يريدان تسمية الوزراء الشيعة وفهمتُ أنّ الحزب لا يحترم الوعد الذي قطعه أمامي»، وآخذاً على الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري أنه «أخطأ في إضافة الشرط الطائفي لتشكيل الحكومة، وطريقة العمل التي اختارها في الأسابيع الأخيرة كانت خاطئة وأعترف أنه حاول التحرك للعودة إلى خريطة الطريق»، ومؤكداً «أن الخريطة الفرنسية لم تكن تتضمّن شروطاً طائفية».
وأعلن أن مبادرته لا تزال قائمة وأن الفشل «ليس لي بل للطبقة السياسية اللبنانية»، موضحاً «أن حكومة المهمة قد لا تكون علمانية بمعنى الكلمة ولكن على الأقل يجب ألا تدافع كل فئة عن مصالح طائفتها فلنسمّها حكومة تحترم التوازنات وألا يكون الوزراء رهائن لدى الأحزاب إذا لم تلتزم القوى السياسية بالإصلاحات في الأيام المقبلة سنكون أمام حرب أهلية أم حكومة مستفيدين»، من دون أن يُسقط اللجوء إلى عقوبات ولكن ليس في المدى القصير.
وأتت مواقف ماكرون لتكرّس دخول لبنان في مرحلةٍ أقسى من عضّ الأصابع، هو الذي كان مشدوداً إلى 3 جبهات يُخشى أن يكون تَشابُكها الزمني، مصادفةً أو تَعَمُّداً، من مَعالِم مرحلةٍ من المخاطر العالية التي تطرق البلاد بابَها. وهذه الجبهات هي: * الأزمة السياسية المستعادة عقب اعتذار أديب بعد 25 يوماً من تكليفه لم يتمكّن خلالها من تشكيل حكومة «الاختصاصيين المستقلين الذين يسميهم هو»، لاصطدامه بجدارٍ من «الباطون المسلّح» ظاهِرُه مذهبيّ وعنوانه اعتبار الثنائي الشيعي «حزب الله» – الرئيس نبيه بري حقيبة المال مفتاح شراكته الميثاقية في السلطة التنفيذية وتمسُّكه بأن تُكرِّس له على أن يسمي مَن سيتولاها والوزراء الآخَرين الشيعة، فيما بدا أن «المفخَّخةَ» التي فجّرت المبادرة الفرنسية بنسختيْها الأصلية و«المُروَّضة» كانت محشوّةً بمجمل فتائل الصراع الأميركي – الإيراني وموجباته كما حسابات ملاقاة حقول التوتر الجديدة في المنطقة.
وفي حين شكّل موقف فريق الرئيس عون (التيار الوطني الحر) من الربط مجدداً «بين التكليف والتأليف» على قاعدة عدم تحديد موعد للاستشارات المُلْزمة للتكليف قبل التفاهُم المُسْبَق مع الشخصيّة التي ستُسمى على التأليف وقواعده «مشروعَ أزمةٍ كبرى» جديدة سياسية ودستورية وطائفية، وسط تقارير نقلتْ أن عون سيسعى للانتهاء من عملية التأليف قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن هذه الإشارات عَكَستْ عدم استعداد عون للتراجع عن دورٍ له في إرساء شكل الحكومة وحجمها (يريدها من 24 وزيراً) ولا عن تسمية الوزراء المسيحيين في أي حكومةٍ «تحتاج لتفاهم الكتل النيابية حولها»، مستفيداً في ذلك من أن الثنائي الشيعي سينطلق في أي تفاوض جديد من حيث انتهتْ مهمة أديب أي من الإصرار على حقيبة المال «الكاسِرة» لمبدأ المداورة والتي تكرّس مبدأ التخصيص الذي يستدرج سبحةَ تعقيداتٍ «قاتلِة» لأي مبادرة.
وكان لافتاً أمس، أن زعيم «تيار المستقبل» الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري الذي نُقل عنه أنه لن يرشّح هذه المرة أي شخصية لتأليف الحكومة أكد في بيان له «أنه غير مرشح لتولي تشكيل الحكومة، إلا أنه يبقى على موقفه الداعم لمبادرة الرئيس الفرنسي والمسهّل لكل ما من شأنه إنجاحها بصفتها الفرصة الوحيدة والأخيرة لوقف انهيار لبنان»، وذلك على وقع مناخاتٍ انقسامية داخلية عميقة ظهّرتْها بيانات رؤساء الحكومة السابقين بعد اعتذار أديب والتي حمّلت الثنائي الشيعي مسؤولية إفشالها.
في المقابل، قالت مصادر بارزة في فريق «8 آذار» إنه بغض النظر عن الأخذ والردّ حول المسؤوليات عن إفشال مهمة أديب ومصير المبادرة الفرنسية، فإن ثمة «جهات تتكاتف لمنْع عون من إكمال ولايته أو أقلّه تهميش دوره والعمل على عزْل (حزب الله) وإبعاده عن السلطة التنفيذية إيذاناً بالسعي لنزع سلاحه»، في وقت قلّلت هذه المصادر من أهمية مبادرة ماكرون وفاعليتها فـ «فرنسا لم تنجح في انتزاع ضوء أخضر أميركي وكانت تتعقّب زيارات ماكرون لبيروت بإرسال موفديها خلْفه»، مشيرة إلى «أن الرئيس الفرنسي لا يملك قرار الحل والربط بدليل أنه لم ينجح في حشْد أكثر من 290 مليون دولار من 17 دولة كمساعدات إنسانية للبنان غداة انفجار المرفأ، فقرار الإنقاذ في مكان آخَر».
* الجبهة الثانية أمنية وتمثّلت في عودة العامل الإرهابي بقوة إلى المسرح اللبناني من ضمن مسارٍ أبدت أوساط مطلعة خشيتها من أن يكون في إطار تهيئة الأرضية داخلياً لمرحلة من التسخين تُلاقي التأزم السياسي وتحاول التحكّم باتجاهاته عبر توظيف ورقة الإرهاب لجعْل أطراف داخلية وازنة تتخذ وضعيات دفاعية بمواجهة «اتهامات جاهزة».
وفي هذا السياق، لم يكن عابراً ما تكشّفت عنه المواجهة الضارية التي وقعت السبت في شمال لبنان بين القوة الضاربة في شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي وبين مجموعة إرهابية تابعة لتنظيم «داعش» مرتبطة بمنفّذي جريمة كفتون (قُتل فيها 3 شبان لبنانيين قبل أكثر من شهر) والتي أدت إلى مقتل كل أفرادها.
وتزامنتْ عملية «المعلومات» التي وفّر لها الجيش اللبناني الدعم، مع قيام عناصر إرهابية بإطلاق النار في اتجاه أحد مراكز الجيش في محلة عرمان – المنية ما أدى إلى مقتل عسكرييْن والإرهابي عمر بريص الذي كان ينوي تفجير نفسه بالمركز.