كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
حدث ما كان يتوقعه الواقعيون في لبنان. المبادرة الفرنسية في المجهول، وقد تصدّعت عملياً بإعلان مصطفى اديب اعتذاره عن تشكيل الحكومة الجديدة، بعد عشرة أيام على انتهاء المهلة التي حدّدها الرئيس ايمانويل ماكرون في زيارته البيروتية الثانية.
ثمة أسباب كثيرة تشي بأنّ الفرنسيين لن يتخلّوا عن مبادرتهم، إلى ان تستنزف آخر الفرص، التي باتت أكثر ضآلة بعد انتكاسة الاعتذار عن التأليف.
أحد هذه الأسباب، وربما أهمها، أنّ باريس تنظر إلى المبادرة باعتبارها فرصة فرنسية أكثر منها لبنانية. فالتطورات الجارية في شرق المتوسط تجعل لبنان نقطة ارتكاز محتملة للسياسات الفرنسية إقليمياً، وهو ما تبدّى بشكل جلي، حين حزم ايمانويل ماكرون أمتعته، متوجّهاً إلى لبنان، مباشرةً بعد انفجار الرابع من آب، وما رافق الزيارتين الأولى والثانية من “بروباغندا” عكست رغبات جيوسياسية واضحة في هذا السياق.
الأمر نفسه ينسحب على المنظومة الحاكمة في لبنان، التي زعزعها انفجار المرفأ، وباتت أسسها الراسخة منذ اتفاق الطائف متصدّعة. قد يفسّر ذلك المواقف العلنية المتمسّكة، ولو ظاهرياً بالمبادرة الفرنسية، باعتبارها الفرصة المتاحة لإعادة ترميم النظام اللبناني، أو بمعنى أدق، وفق الأدبيات الماكرونية، الفرصة الأخيرة لـ”العقد السياسي الجديد” الذي من شأنه أن يمثل بديلاً عن “تغيير النظام”، بكل ما تحمل كلمة “تغيير” من سيناريوهات، كلها يقود إلى “جهنم”.
مع ذلك، كان واضحاً أنّ الاندفاعة الفرنسية دونها الكثير من العقبات، ظاهرها قواعد اللعبة السياسية في لبنان، بكل معادلاتها الطائفية التحاصصية، أو جوهرها، فينطلق من الوظيفة الاستراتيجية لفرنسا، حيث كان واضحاً انّ تعثرها بدأ يوم قرّرت الولايات المتحدة رفع الغطاء عنها، أو بالأصح تفجيرها، بهدف كبح الطموحات الفرنسية في شرق المتوسط من جهة، أو الحصول على تنازلات فرنسية في الملف الإيراني، وهو الأمر الذي تبدّى حين أعلنت وزارة الخارجية الأميركية ادراج الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس على قائمة العقوبات، وتلويحها بلوائح أخرى جاهزة، في مسعى واضح لإعادة خلط الأوراق اللبنانية، على النحو الذي دفع بالتناقضات الى نقطة الذروة حتى داخل الفريق الواحد.
ما سبق يفسّر الكثير من التحرّكات التي رافقت المسعى الفرنسي لتشكيل الحكومة الجديدة. ليست القضية هنا متصلة بطريقة التشكيل الحكومي وتسمية وزير هنا أو هناك. ما جرى في الواقع كان محاولة انقلاب تتماهى مع الاندفاعة الأميركية لتخريب الوضع اللبناني، وهو أمرٌ كان من الواضح أنّ كلمة السرّ فيه وصلت إلى الجهات الفعلية التي عطّلت المبادرة الفرنسية، والتي يحاول البعض الباسها للثنائي الشيعي.
بعيداً من الدعاية الإعلامية، التي باتت أهدافها مكشوفة منذ 17 تشرين الأول الماضي، يبدو واضحاً أنّ ما يجري في لبنان هو محاولة انقلاب مستوحاة من تجارب الثورات الملونة السيئة الذكر، والتي تبدو موجّهة بالأساس إلى محور المقاومة، الممثل لبنانياً بالثنائي الشيعي.
ما جرى خلال اليومين الماضيين هو محاولة لاستكمال الانقلاب، بعد نجاح “حزب الله” تحديداً، في احتواء موجته الأولى، المتلطية خلف شعار “كلن يعني كلن”، عبر استعادة حرفية لسيناريو العام 2005، يوم أملت التطورات الداخلية، المتمثلة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتحرّكات الداخلية، ابتداءً من القرار 1559 وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق، على لبنان حكومة اللون الواحد، التي ذهبت بعيداً في تجاوز الخطوط الحمراء المثبتة للسلم الأهلي… وما تلا ذلك بات معروفاً للجميع.
اليوم، تتجدّد محاولات عزل “حزب الله”، وبطبيعة الحال حركة “امل”، عن الشراكة الوطنية، تحت “كليشيهات” خبيثة، من قبيل “حكومة اختصاصيين” و”مداورة الوزارات”، إلى آخر تلك السرديات التي لا تهدف سوى لتحقيق هدف واحد، وهو ضرب البنية التي استقرّت عليها شراكة الحكم منذ سنوات، والتي يمكن افتراض أنّها جنّبت لبنان أشباح الفتن التي أطلّت برأسها في العديد من المحطات التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
بهذا المعنى، من الظلم اعتبار مقاربة “الثنائي الشيعي” لعملية التشكيل الحكومي بمثابة “تعطيل”، كما يحاول البعض أن يصوّر الأمر، فالحال أنّ “الثنائي” يبدو اليوم أكثر في موقف دفاعي، ليس عن حضوره فحسب، وانما عن مستقبل بلد يزداد يوماً بعد يوم الخناق الانقلابي عليه، إن في الاقتصاد أو في السياسة، أو حتى بتهديدات العزل المتواصلة
ثمة حاجة إلى تصويب المشهد، فالتعطيل بدأ حين بدأت جهات خارجية وأدوات داخلية معركة عبثية ضد الأكثرية البرلمانية، أي الانقلاب على نتائج انتخابات العام 2018، وذلك بعد فشل الدعوات التي حاولت تلك الجهات فرضها طوال العام الماضي، لاجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وهي الوجهة التي حاول البعض فرضها على المبادرة الفرنسية، قبل أن يصدمها تصريح ايمانويل ماكرون في قصر الصنوبر، حين قال، إنّ الانتخابات المبكرة مسألة لا تحظى بالإجماع السياسي في لبنان.
يبدو أنّ هذا التصريح كان المحرّك الأساس لصدور كلمة السرّ إلى الأدوات الداخلية، وهو ما جعل سيناريو الاعتذار مطروحاً في كل مرة كان رئيس الحكومة المكلّف يذهب فيها إلى قصر بعبدا، أقلّه منذ أن اتخذت الولايات المتحدة قرارها بالتصعيد باستخدام سلاح العقوبات، ولم تكن مصادفة ان تتسارع احتمالات هذا السيناريو، من اللحظة التي خرج فيها الملك السعودي سلمان، بمواقفه الهجومية على “حزب الله”، التي كانت بمثابة جرعة منشطات لنادي رؤساء الحكومات السابقين، لفرض وجهتهم على الحلّ الحكومي، متجاوزين مبادرة الرئيس سعد الحريري، الذي بات عالقاً بين ضغوط الحل الفرنسية وبين ضغوط التعطيل الخارجية، والتي يُقال انّها أميركية – سعودية.
ما يؤكّد أنّ قرار التعطيل كان “خارجياً” يمكن تلمّسه في أنّ نادياً يضمّ شخصيات لا تمثل زقاقاً – لا شارع – بات قادراً على فرض وجهتها التعطيلية على الجميع، بما في ذلك سعد الحريري، الذي يمكن الافتراض أنّه الشخصية الأكثر شعبية في تأثيرها على الشارع السنّي. لكن العبث في معركة التعطيل تلك يبدو أكثر إثارة للاهتمام، ويتمثل في أنّ رؤساء الحكومات السابقين فوّتوا على أنفسهم فرصة أن تكون حكومة مصطفى أديب حكومةً لصالحهم، وفضّلوا التضحية بها لتحقيق هدف وحيد وهو إحراج “الثنائي الشيعي”، وهو أمر يحمل أكثر من دلالة على أنّ قرار التعطيل هو قرار خارجي بالأساس، وليس مجرّد محاولة لتحقيق مكاسب سياسية كانت شبه مضمونة.
يبقى السؤال، ماذا بعد اعتذار مصطفى أديب؟
من المؤكّد أنّ المبادرة الفرنسية قد ترنّحت، وهي تنتظر ما يحييها من غيبوبتها السريرية التي وقعت فيها منذ اللحظة التي حسم فيها مصطفى أديب قراره بالاعتذار. فهل تجديد المبادرة الفرنسية أمرٌ ما زال ممكناً؟ وهل تجديدها يعني انّ فرص نجاحها ستكون أفضل هذه المرة؟ وإذا ما فشلت المحاولة المتجدّدة فما هو رهان المعطلين؟ أهو الاستثمار في الانهيار أم في الفتنة القادمة؟
كل تلك التساؤلات لا شك أنّ الأيام المقبلة ستجيب عنها، ولكن ثمة أمراً ثابتاً لم يعد بالإمكان تجاوزه بعد اعتذار اديب، وهو أنّ الأزمة اللبنانية قد تدوّلت في ساحات الصراع الإقليمي والعالمي، والطريق إلى جهنم ربما باتت تمرّ بتلك الساحات!