كتب طوني عيسى في صحيفة الجمهورية:
ليس بسيطًا أن يكون الاتفاق على بدء مفاوضات الترسيم مع إسرائيل أسهل من الاتفاق على تسمية وزير للمال في لبنان مثلاً، ومن استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ومن مراعاة الصديق الفرنسي ماكرون. والأشدّ إثارة، هو أنّ الاتفاق على التفاوض للترسيم مع إسرائيل يبدو أسهل من الاتفاق على التفاوض للترسيم مع سوريا، من «بحر الشمال»، حيث تتشابك البلوكات كما في الجنوب، إلى الحدود الفلتانة في جرود الهرمل وسائر البقاع… نزولاً إلى «سرِّ الأسرار»، مزارع شبعا!
بين أيار وحزيران العام الفائت، واظب السفير ديفيد ساترفيلد، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، على جولات مكوكية مضنية بين لبنان وإسرائيل، محاولاً إحداث خرق يطلق مفاوضات الترسيم، على رغم أنّ مهمَّته كانت قد انتهت رسمياً وتمّ تعيين السفير ديفيد شنكر خلفاً له قبل أشهر.
الأميركيون كانوا حصروا مفاوضاتهم في بيروت بالرئيس نبيه بري، منذ العام 2018، واقتنعوا بأنّ قربَه من «حزب الله» سيتيح التوصُّل إلى قرارات قابلة للتنفيذ عملياً. لكن مناخات «الحزب» لم تكن ناضجة لخطوة من هذا النوع، خصوصاً على مستوى الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، فتعثّرت مهمّة ساترفيلد.
آنذاك، تردَّد أنّ المسؤول الأميركي خاطب المعنيين في بيروت بلهجة حازمة، محمّلاً إيّاهم المسؤولية عن تعطيل التسوية والتداعيات المحتملة. وفي أيلول 2019، باشر شنكر مهمته ميدانياً بين لبنان وإسرائيل.
بعد شهر، أصبح الحدث هو انتفاضة 17 تشرين الأول وسقوط حكومة الرئيس سعد الحريري. وخلال حكومة الرئيس حسّان دياب، سادت المراوحة ملف الحدود الجنوبية، واختلطت الملفات التي تولّاها شنكر في لبنان، بين الداخل والحدود. لكن الوسيط الأميركي حرص على إبلاغ لبنان رغبة واشنطن في تحقيق خرق في هذا الملف قبل انتهاء العام الجاري.
اتصف التعاطي اللبناني مع المساعي الأميركية بالمراوحة. والأرجح أنّ الرئيس ميشال عون حاول تسجيل نقطة لمصلحته لدى الأميركيين، بإعلانه الرغبة في وضع الملف في عهدته. ولكن، على الأرجح، الوسطاء الدوليون يرتاحون لبقاء الملف في أيدٍ شيعية، لأنّ المفاوضة مع الأصل أسهل.
فجأة، وقع انفجار المرفأ، وسرَّع الأمور. وبعد يومٍ واحد، أعلن الرئيس نبيه بري أنّ اللمسات الأخيرة باتت قيد الإنجاز في ملف التفاوض. وجاء ذلك، فيما ينزلق لبنان نحو القعر، في أسوأ انهيار مالي ونقدي واقتصادي واجتماعي، وتتلاحق دفعات العقوبات الأميركية التي تزرع الإرباك والرعب بين أركان السلطة.
المتابعون يقولون: تصرَّفَ الوسيط الأميركي بكثير من المسايرة للبنان، وهو لم يستخدم مباشرة سلاح العقوبات لإجبار لبنان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. لكن أركان السلطة أنفسهم يعرفون أنّ الهوامش التي يمتلكونها باتت ضيّقة جداً.
فلبنان يحتاج إلى الراعي الأميركي، ليس فقط لدعم الجيش والأمن والمؤسسات، بل أيضاً لتجنّب المصير الأسوَد الذي يمكن أن يبلغه، إذا رفع الأميركيون حصانتهم عن القطاع المالي والمصرفي واستجابوا لدعاوى الدائنين.
وأراد المسؤولون اللبنانيون، والرئيس بري تحديداً، إرسال إشارة إلى الجانب الأميركي، مفادها الاستعداد للتجاوب في هذا الملف، خصوصاً أنّ شنكر كان تعاطى بسلبية واضحة معهم خلال زيارته الأخيرة للبنان، وتجاهلهم تماماً، والتقى أركان المعارضة والمجتمع المدني.
هذا يعني عملياً، أنّ قوى السلطة، ومن خلالها «حزب الله»، قرَّرت تهدئة اللعبة مع الولايات المتحدة، وعدم الوقوف في وجه «المحدلة» لئلا تدفع الثمن غالياً جداً. ولكن، هل يعني ذلك أنّها ستتجاوب تماماً مع المطالب الأميركية؟
على الأرجح، يتعاطى «حزب الله» مع ملف المفاوضات كتعاطيه مع المبادرة الفرنسية، أي الموافقة على الانخراط فيها… ولكن، تحت السقف الإيراني، والرهان على إدارتها في الاتجاه الذي يخدم مصالحه.
في المبدأ، شنكر سيعود إلى المنطقة قبل منتصف تشرين الأول، كما يوحي بعض المصادر، لأنّه سيرعى انطلاق المفاوضات في الناقورة في هذا الموعد، وفق تقديرات الجانب الإسرائيلي. وهذه الفترة حسّاسة سواء في لبنان الغارق في مآزقه الخانقة، أو في الولايات المتحدة حيث الاهتمام الوحيد هو الانتخابات الرئاسية.
لكن الأهم هو الكلام على اتصالات تدور في هذه الفترة، ولو في شكل بدائي، بين إيران والولايات المتحدة. وهذه الاتصالات يمكن أن تصبح مفاوضات على مستوى أرفع في مراحل لاحقة. والرئيس دونالد ترامب كان تحدث أخيراً عن سعيه إلى صفقة جديدة مع إيران، إذا فاز في الانتخابات.
إذاً، ستسلّم طهران بمبدأ المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، لكنها بالتأكيد ستحاول استخدامها ورقة للمساومة أو صندوقاً للرسائل، سواء في ظل «الكباش» مع الأميركيين أو في ظل المفاوضات معهم. وستكون هوية الرئيس الأميركي المقبل أساسية، وكذلك مقاربته للملف الإيراني.
وأما إسرائيل، فتقرأ الملف من زاوية أخرى، وهي «زَلْقُ» لبنان في اتجاه التفاوض نحو مسائل أكثر عمقاً، وتتعلق بمناخ الشرق الأوسط الجديد. وهي تتلقّى دعماً أميركياً في هذا المجال، أياً كان المقيم في البيت الأبيض.
وسيكون الترسيم حيوياً للبنان، ليس فقط في البحر حيث الموارد الغازية، بل أيضاً في البرّ، حيث سيتمّ استثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا من المفاوضات، لأنّ سوريا لم تقدِّم إلى لبنان وثيقةً تثبت أنّها أراضٍ لبنانية. وعلى أساس هوية هذه الأراضي تتوقف مشروعية عمل «حزب الله» المسلّح، وقد أضيفت إليها أخيراً مساحات الخلاف البحرية.
إذاً، عندما تبدأ مفاوضات الترسيم، في حضور الوسيط الأميركي والراعي الدولي، سيكون لبنان قد خطا خطوة مُهمَّة في اتجاه شيءٍ ما. والأيام الآتية ستحسم ما هو هذا الشيء.