كتب عمار نعمة في “اللواء”:
هي المرحلة الأصعب لـ«التيار الوطني الحر» منذ عودة المؤسس «العماد» ميشال عون الى البلاد قبل أكثر من 15 عاماً. ولعل التحديات التي يواجهها التيار لا تتعلق بطبيعة الأداء وتعثر العهد بعد سنوات أربعة من وصول عون الى رئاسة الجمهورية، بل أيضا بظروف موضوعية وتربص للأخصام والحلفاء المفترضين.. وسوء حظ أيضا بعد انفجار الغضب الشعبي في 17 تشرين في وجه أكثر أركان السلطة رمزية.
والحال أنه منذ وصوله الى رأس السلطة وما قبله، شرع الرئيس الجديد للتيار جبران باسيل، في هجوم شامل على مراكز الدولة المسيحية في الإدارة، مستلهما نماذج الآخرين من أركان السلطة الطائفية منذ فترة ما بعد الطائف وهي النماذج التي أودت بالبلد الى حاله المزري اليوم.
صحيح أن التيار ومعه العهد ذهبا ضحية تراكمات الماضي التي تمظهرت في الانفجار الشعبي في 17 تشرين ومن بعهد في مأساة المرفأ، وما بينهما من كارثة إنسانية وإقتصادية للبنانيين، إلا أن الصحيح أيضا أن التيار في أدائه لم يختلف عن ذلك الذي أظهره الأركان الباقون في التناتش الطائفي لمقدرات الدولة التي باتت خاوية ومهترئة.
لمصلحة من تراجَع التيار؟
من الواضح أن تراجعاً كبيراً شاب شعبية التيار مسيحيا في الآونة الاخيرة ناهيك طبعا عن شعبيته لدى الطوائف الأخرى. ويشير متابعون للشأن المسيحي الى أن التيار فقد جزءا من «جسمه الصلب»، أي من الملتزمين به، في موازاة خسارة كبيرة من الدائرتين الثانية والثالثة وهم من غير المنتمين، وفيهم الكثير من المستفيدين من تواجد التنظيم في السلطة وبينهم التجار وأصحاب المصالح الذين تأثروا بالظروف الاخيرة في البلد بدءا من إنتفاضة 17 تشرين التي أدت الى خسارتهم لأعمالهم مرورا بانفجار المرفأ وليس انتهاء بالخشية من التهديد بالعقوبات الاميركية. كما أن هذه الشريحة أيدت التيار بوصفها موالية للدولة ومعادية للميليشيات، وهي تأتي بغالبيتها من المدن أو التجمعات البشرية التي تشبهها كما في المتن والكورة وغيرهما، وهي لا تقتصر على الموارنة.
على أن هذا التراجع في الشعبية لم ينتقل بغالبيته الى المنافسين في ظل كفر شرائح واسعة بالأحزاب. وإذا كانت «القوات اللبنانية» قد كسبت بعض الشعبية اليوم على ظهر التيار، فإن غالبية الخارجين عنه لم ينتقلوا الى تنظيم أو تيار ما. وبحسب متابعين لشؤون التيار، فقد هاجر بعض المعترضين بينما دخل البعض الآخر في حالة «ضياع» مع تشبيه الوضع اليوم بمرحلة ما قبل عودة عون الى لبنان.
لا تقديرات محددة لنسبة الخارجين عن التيار، وتحدث البعض عن 15 إلى 20 في المئة، وهو ما يفسر عدم حماسة التيار والعهد لإجراء انتخابات فرعية في ظل تساؤلات حتى عن إجراء الانتخابات النيابية المقبلة في موعدها.
ثمة ظروف موضوعية وسوء حظ للتيار وللعهد كانت وراءهما محاصرة الحلفاء المفترضين للتيار في السلطة، كـ«القوات» بزعامة سمير جعجع والزعيم «الإشتراكي» وليد جنبلاط و«تيار المردة» بزعامة سليمان فرنجية، وطبعا من رئيس مجلس النواب نبيه بري وقد إنضم إليهم زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري. ويلقي كثيرون في التيار باللوم على «حزب الله» لعدم مناصرة العهد وباسيل في معاركهما مع الحليف الشيعي للحزب، وفي أروقة التيار إنتقادات حادة للحزب الذي يُقال إنه أفشل العهد عبر عدم حمايته في المعركة ضد فساد الطبقة السياسية التقليدية.
لكن منتمين عاطفيا للتيار ومعارضين لقيادته، يلقون باللائمة أيضا على باسيل الذي كان يعرف منذ البداية أنه سيصل الى هذا المنحى.
وبالحديث عن العهد ورئيس الجمهورية، لدى وجهة النظر هذه دلائل على عدم استعمال عون لصلاحيات حافظ عليها الطائف، وذلك لأسباب خارج السياسة مثل الحديث عن المادة 95 من الدستور التي وجه من أجلها سؤالا الى مجلس النواب لتفسيرها، إضافة الى صلاحية رد القوانين.. وطبعا دفاعه المستميت عن شخص باسيل في ما يشبه الصراع مع الزمن لتوريث الرجل.
واليوم، ثمة خصومة للتيار مع الجميع تنعكس على الرئاسة التي لا تكبحه وهو ما يلفت هؤلاء الى أنه سيضر بباسيل نفسه في حظوظه الرئاسية. ومع انتهاء ولاية عون، لن يعود الامر يتعلق بالنادي التقليدي للرؤساء المرشحين الذين برزوا في السنوات الاخيرة، أي باسيل وجعجع وفرنجية، وثمة يتحدث عن انتهاء زمن الرئيس القوي سريعا بعد أن نادى المسيحيون طويلا لرئيس يحظى بشرعية شعبية مسيحية وهو مطلب حق.
ضياع مسيحي يُذكّر بالماضي
على أن الساحة المسيحية اليوم تعيش حالة تيه هي ليست الاولى، فقد مر المسيحيون بحالة ضياع بعد اغتيال الرئيس الاسبق بشير الجميل كما بعد انهاء حالة ميشال عون في قصر بعبدا في العام 1990. ثمة ما يجب التوقف عنده ملياً: التراجع الديموغرافي، الوهن السياسي، خيبة الأمل من الشريكين السني والشيعي تتعمق مع كل تململ من أداء سلطوي ما أو حتى إداري أو أزمة ما، مع شعور عام بضرب وجه لبنان وأركان الوجود المسيحي في السياسة والمال والاقتصاد.
ويضاف عامل رئيسي الى كل هذا مع الصدام العوني «القواتي» الأخير الذي «فتح الجروحات» ودل على استحالة تعايش طرفا المعادلة المسيحية بعد تحالف كاذب تحت شعار «أوعا خيك» الذي لم يُعمر طويلاً.
وعلى صعيد التيار، لا يتوهم حتى أعداءه بانتهائه، لكن البعض يشير الى انه سيفقد تأثيره ليصبح شبيها بحزب «الكتائب» الذي يعتمد على عراقته التاريخية أكثر من شرعية شعبية على الارض، ما سيذهب لصالح «القوات» التي تدغدغ المشاعر الطائفية أو من يصطف على يمينها من «غباء» تقسيمي يعلم المسيحيون ما جلبه في الماضي البعيد منه والقريب، وبات من صالح الساحة المسيحية التمسك بالطائف وبما نص عليه من صلاحيات وإصلاحات مثل اللامركزية الإدارية التي تطلق التنافس الإيجابي بين المناطق.
ويراهن باسيل على شراء الوقت وتمرير المرحلة الصعبة في الوقت الذي وجّه فيه رسائل حسن نية الى الخارج. أميركيا عبر تمايز يشبه الإختلاف مع «حزب الله»، وفرنسيا عبر كلام داعم لما جاء به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وفي ذلك تمايز جديد عن الحزب.
وفي الداخل العوني، تلقى رئيس التيار جرعة من الدعم عبر «تحييد» إندفاعة المعارضة العونية مع زيارة رأس تلك المعارضة نعيم عون لرئيس الجمهورية الذي طلب لقاءه وهو ما رحب به القيادي المعارض تحت شعار توفير الفرصة للمصالحة، علما أن الأمر لا يحظى بموافقة جميع أركان تلك المعارضة التي وُجهت إليها ضربة بعد صعود بدأ مع مثل هذه الأيام من العام الماضي، لتشكيل جبهة تضم عونيين ومن هم خارج هذا الإطار أيضا، قبل تواؤم تحركات تلك المعارضة مع حراك 17 تشرين.. لكن انفتاح نعيم عون على العهد يبدو أنه وضع كل تلك الجهود قيد العناية السريريّة.