كتب عمّار نعمة في “اللواء”:
شكل الإعلان عن إتفاق الإطار لترسيم الحدود البرية والبحرية في الجنوب اللبناني من قبل رئيس مجلس النواب نبيه بري، أمس الأول، مفاجأة خاصة لناحية التوقيت في ظل المناخ العام في المنطقة والعلاقة الصعبة مع الإدارة الأميركية الحالية.
كما كان لافتا للانتباه، وإن كان طبيعيا لناحية الملف، أن يخرج الإعلان من رئيس المجلس بينما يعود خبراء كثر الى المادة 58 من الدستور التي تتكلم بوضوح عن تولي رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، على أن لا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء ومن ثم تطلع بعدها الحكومة مجلس النواب عليها.
لذا، فمن الناحية التراتبية، يبدأ الأمر عند رئيس الجمهورية ليتخذ مساره، وهي تراتبية لا علاقة لوزير الخارجية بها في هذه المرحلة، لكن المسألة اليوم في الترسيم بدأت معكوسة مع إعلان أمس الأول، برغم أن بري قد أعلن أنه لا يقتطع عبر سبقه هذا من صلاحيات الرئاسة. لكن حتى لو اتخذ الأمر صفة الإطار في المرحلة الأولى، فإن المسألة تتخذ صفة المُفاوضة، ذلك أن المادة 58 لا تقول ان رئيس الجمهورية يملك صلاحية التوقيع فقط، بل هو يتولي المفاوضة فعلياً ويكتسي دوره الأهمية من بداية المفاوضات وهي مهمة منوطة بالسلطة التنفيذية.
واليوم، بات لزاماً دستورياً أن يعود الملف الى رئيس الجمهورية الذي يصر عليه وهو سيتولى هذا الموضوع، ولن يعمل عليه وحده بل سيشرك قيادة الجيش كون أن هناك مسائل ذات طابع عسكري يجب مقاربتها بدقة، وبعد الانتهاء من هذه الأمور التقنية الشائكة ينتقل الموضوع الى مجلس الوزراء.
توقيت الإعلان.. وعلاقات باريس بطهران
والسؤال الكبير هنا، هل لدى حكومة مستقيلة صلاحية تولي الموضوع والاجتماع لبحثه لجديّته؟
الإجابة لدى خبراء دستوريين هي بالإيجاب كون الأمر يكتسب الإلحاح، علما أن المفاوضات ستتخذ أشهراً قد تشهد ولادة حكومة جديدة بعد فترة قد تطول، وسيكون عليها إرسال إتفاقية الترسيم إن حصلت، الى المجلس النيابي ليقرها.
وحتى الوصول الى تلك المرحلة، يلفت متابعون لشؤون رئاسة الجمهورية، النظر الى أنها ليس المرة الاولى التي يتم فيها تجاهل الرئاسة خلال مدة وجيزة. فقد حصل الأمر خلال مفاوضات تشكيل الحكومة من قبل الرئيس المكلف المعتذر عن متابعة عمله مصطفى أديب، ما يعد في إطار خرق مبدأ فصل السلطات الذي نص عليه الدستور وما أدى الى خلط في الأدوار سياسيا.
كما ثمة سؤال يتعلق بالتوقيت. ففي لحظة سياسية تحتدم فيها الآراء حول المبادرة الفرنسية المُجهضة، يقول البعض إن إعلان الإطار جاء ليسدد ضربة في مرمى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وهو ما يشير الى غياب للتنسيق اليوم بين واشنطن وباريس، كانت أولى إشاراته العقوبات الأميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس. بمعنى آخر، وجهت الادارة الاميركية رسالة علنية فحواها أنها تنسق مع باريس لكن مع احتفاظها بالقرارات الكبرى لخطوطها العريضة في المنطقة وخاصة تلك التي تتعلق بـ«حزب الله» الذي من الطبيعي أن مسعى بري حصل على مباركته إن لم يكن توجيهه في هذا المسار.
وفي ذلك إشارات لتململ أميركي من إنفتاح فرنسا على إيران و«حزب الله»، في ظل استمرار باريس في إيلاء مصالحها الاقتصادية في إيران أهمية كبيرة غير آبهة بالموقف الأميركي.
كما أن البعض يشير الى أن واشنطن أرادت، في ظل مناخ التطبيع القائم اليوم، أن توجه رسالة أخرى مؤداها أن الاتفاق هو شكل من أشكال الدعم للرئيس الاميركي دونالد ترامب في مخاضه الصعب على طريق الانتخابات الرئاسية الاميركية في الثالث من الشهر المقبل.
على أن المبادرة الفرنسية لم تنته. وبينما يصف البعض من متابعي الموقف الفرنسي، حالتها بأنها في «العناية الفائقة» بعد فشل مسعاها الأولي، هي اليوم تتلمس خطاها المقبلة ولا تستسلم كونها تتصل بسمعة الرئيس الفرنسي الذي يرى المنطقة التي يقع لبنان فيها بشموليتها، من دون ربطها فقط بهذا البلد وهو آخر القلاع الفرنكوفونية في العالم.
وفي مقاربة هذا الفشل، هناك من يلفت النظر الى استعجال ماكرون لحصد نتائج مبادرته ورغبته في استثمارها سريعا في الداخل الفرنسي الذي يتأثر كثيرا تاريخيا بإنجازات الخارج. ويعود هذا الاستعجال الى طبع الرئيس الفرنسي الذي لا يخطط لأمد طويل ولا يقيس إحتمالات الفشل بل ينظر دوما الى النجاح الدائم.
أما لناحية بري ومن يمثل، فهو رد بموقفه على العقوبات الاميركية التي طالت مساعده، مثلما شكل موقفه محاولة لتحييد المزيد منها، وطبعا تثبيت تموضع جديد في المعادلة الداخلية في مرحلة إعادة لصياغة النظام اللبناني.
وفي كل الاحوال، إذا أتى الاتفاق المنتظر لصالح لبنان، فهذا مؤشر على قوة هذا البلد ومقاومته، وفي ظل ظروف جد صعبة، بات لزاماً على لبنان الإفادة من مخزونه الغازي والنفطي الذي لم يعد في المقدور تجميده ولبنان خاسر وتزداد معاناته يومياً، ومن شأن احتمال الاقلاع في هذا الملف أن يجذب القروض الخارجية المُيسرة التي يحتاجها اللبنانيون.