أشار البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، إلى أن “الأزَماتِ الاقتصاديةَّ والماليّةَ والصِحيّةَ والاجتماعيّةَ تَعُمّ العالمَ، والعالمُ يَرتعد من وباءِ “كورونا”الجامِح وقد ازدادَ انتشارَه في لبنانَ. كلُّ ذلك لا يُسهِّل للّذين يفكرون في المغادرةِ فرصَ الاستقرارِ في بلادِ الاغتراب”.
وتابع: “إنَّ لبنانَ بحاجةٍ إليكم أنتم بالذات: إلى أخلاقِكم وضمائركُم، إلى ثورتِكم وغضبِكم، إلى علمِكُم وثقافتِكم، إلى رُقيِّكم وحضارتِكم ونمطِ عيشِكم. لبنان يُناديكم فهو مثلُكم معذّبٌّ ومصدوم. مزيد من الصمود ونخرج بنعمة الله وقدرته إلى حالةٍ أخرى افضل. لا، لبنانُ لن يركعَ، لبنان لن يَسقطَ. كلُّ ما نراه، وخصوصًا الآلام، هي دليل على أن لبنانَ سيَخرج من بينِ الأنقاض شأنه في كل ظروف تاريخه التي كانت اقسى وادهى”.
وقال الراعي في عظة قداس الأحد في الديمان: “ما زال قلبنا يعتصر ألمًا لضحايا انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، ولم يُسفر التحقيق العدليّ عن أيّ نتيجة، فيما الموقوفون ينتظرون بألمٍ شديد حكم الإدانةِ أو البراءة بعد ستّين يومًا تمامًا. ويزداد ألمنا بتفشّي وباء كورونا، الذي يشلّ الحركة في الكرة الأرضيّة، ويوقع الضحايا البشريّة والخسائر الماديّة، ويزيد من أعداد الملايين من الفقراء والجياع. ومّما يؤلمنا بالأكثر، إهمالُ السلطة السياسيّة لشعبها، وتحكّم الجماعة السياسيّة بمصير بلادِنا، وإمعان النافذين في إفشال تأليف حكومةٍ تتولّى إدارة شؤون البلاد، بعد أن نجحوا في إرغامِ رئيس الحكومةِ المكلّف على الإعتذار، على الرغم من المبادرة الصديقة التي بادر بها مشكورًا الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون. فنقولُ لهم جميعًا: لستم أسياد الشعب بل خدّامه! وليست الدولة ملككم، بل ملك شعب لبنان! لا يحقّ لأحدٍ منكم أو لفئةٍ أو لمكوّن أن يجعل من لبنان حليفًا لهذه أو تلك من الدول في صراعها ونزاعها وحروبها وسياساتها، بل لنجعله صديقًا ووسيطَ سلامٍ واستقرار! لا تجعلوا من لبنان صوتًا لهذه أو تلك من الدول بل حافظوا عليه صوتًا حرًّا للحقّ والعدالة وحقوق الإنسان والشعوب! حافظوا عليه في هويّته السياسيّة وهي حياده الناشط الّذي يحرّره من حالة التبعيّة إلى الخارج، ودوّامة الحروب؛ ويحقّق سيادتَه الكاملة داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، مرتكزة على دولة القانون، وعلى جيشها وسائر قواها المسلّحة؛ ويمكّنه من القيام بدوره ورسالته في الأسرتين العربيّة والدوليّة.”
وتابع: “يعمّ الكذب السياسيّ، واستغلال الشعب، والسيادة عليه بإفقارِه وتيئيسه، والفساد الأخلاقيّ والتفلّت من قيود الدِين والقيم. ألم يحن الوقت، بعد كلّ مآسينا، أن نبدأ نهجًا جديدًا لتجديد وطننا بقيمِه التاريخيّة؟ فتجاه الانسدادِ المدَبَّر، حيث لا حكومةَ، ولا خُطّةَ إنقاذٍ، ولا إصلاحاتٍ، ولا احتكامَ إلى الدستورِ، ولا حياء، يَجدُر بنا جميعًا أن نُفكّرَ في إحداثِ خرقٍ من دون انتظارِ أيِّ استحقاقٍ خارجيّ. فانتظارَ الخارج يُثبّتُ تَعدّدَ الوَلاءاتِ شرقًا وغربًا. إنَّ فداحةَ الأوضاعِ واحتمالاتِ حصولِ تطوّراتٍ من طبيعةٍ متنوّعةٍ، تُحتّمُ الإسراعَ بتأليفِ حكومةٍ تُجسّدُ آمالَ المواطنين، ليَنتظِمَ العملُ الدُستوريُّ والميثاقيّ، فلا يُبيحُ أحدٌ لنفسِه استغلالَ حالةِ الغيبوبةِ الدستوريّةِ أو تصريفِ الأعمال، أو وباء كورونا، وما هو أدهى من ذلك، ليخلق أمرًا واقعًا. ليتَ جميعَ القياداتِ اللبنانيّة، الروحيّةَ والرسميّةَ والسياسيّةَ والحزبيّة، تَستعيدُ مبادرةَ اللقاءِ حولَ الثوابتِ الدستوريّةِ والميثاقيّةِ وتُلاقي وجعَ الناس وحاجةَ البلادِ إلى الخروجِ من أزمتِها العميقة.”
وأضاف الراعي: “تلقّينا بأمل إعلانَ الدولةِ اللبنانيّةِ تَوصّلَها إلى “اتفاقِ إطاريّ “لترسيمِ الحدودِ البريّةِ والبحريّةِ مع إسرائيل بما يَسمحُ للبنان بأن يَستعيدَ خطَّ حدودِه الدوليّةِ جَنوبًا، ويُسهِّلَ له استخراجَ ثرواتِه البحريّةِ من النَّفطِ والغاز، ويُنهيَ مسلسلَ الاعتداءاتِ والحروبِ بين لبنانَ وإسرائيل، بموجب القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، ويَضعه على مسارِ التفاوض السلميِّ عوضَ القتال، من دون أن يعنيَ ذلك عمليّة تطبيع. ولا بدَّ في المناسبة من إيجادِ اتّفاقٍ يَـحُـلُّ مسألةَ وجودِ نحوَ نِصفِ مليونِ لاجئٍ فِلسطينيٍّ على أرضِ لبنان، والعمل على ترسيم ِ الحدود مع سوريا لجهةِ مزارع شبعا، وإنهاء الحالة الشاذّة والملتبسة هناك.”
وقال الراعي: “ألاحظ بألمٍ كبيرٍ ميلَ لبنانيّين إلى مغادرةِ البلادِ بحثًا عن عملٍ وأمنٍ وحياةٍ كريمة. وإذ أتفهّمُ معاناةَ الشبابِ والشابّات والعائلاتِ وسببَ “رغبتِهم القسريّة”بالابتعادِ عن المآسي، وإذ أشاركهُم خيبةَ أملِهم من كلِّ شيءٍ، نعم من كلِّ شيءٍ، أدعوكم يا شاباتِنا وشبّانبا إلى التأنّي في التفكيِر قبلَ اتخاذِ قرارِ الهِجرة. أعرِفُ أنكم تغادرون مُكرهين، تسيرون وتنظرون إلى الوراء حبًّا بمَن وبما تتركون، تَحمِلون ذكرياتِكم وجِراحَاتِكم، وتَخفون دموعَكم في حقائبكم، وتحفظون لبنان في قلوبكم.”