كتبت نوال نصر في صحيفة “نداء الوطن”:
تباروا، من كل المعمورة، في التغني “بأجمل خليج في العالم” الذي “ليس في كل ساحل الشام من غزة الى الاسكندرونة مينا طبيعية سواه” حتى أن المفوض السامي الفرنسي الجنرال مكسيم ويغان تمنى: “ليتني أدفن هنا”. تُرى هل يتعطل العمل حين يكثر المديح؟ وهل لنا أن نسأل اليوم، بعد نكبة مرفأ بيروت: ماذا عن حال مرفأ جونيه الذي شهد في تاريخه أيام عزّ وأيام شدّة؟
وما همّ جونيه من هدير بحورها. هي مقولة راجت من زمان. فجونيه والبحر توأم. والبحر والأسرار نادراً ما يفترقان. وها نحن ندور وندور حول أنفسنا، في سنين تتوالى، وفق قاعدة “راوح مكانك”. فبعد أكثر من خمسين عاماً على إنشاء مرفأ جونيه القديم (في العام 1968) والذي عُرف بمرفأ الصيادين، يستمر الكلام عن مرفأ جديد سيرى النور ذات يوم في جونيه. المرفأ الحديث انطلق لكن كمن يمشي “على بيض” فالمال من “زمان وجاي” يشحّ حين تطأ المشاريع بوابة كسروان. فما رأي العميد شامل روكز الذي وضع حجر الأساس لمرفأ جونيه الحديث في كانون الأول من العام 2016 قبل أن ينتخبه الكسروانيون؟ يومها قال العميد سيكون هذا الحجر فاتحة أمل فهل ما زال يأمل، بعد كل النكبات، بتنفيذ المشروع؟ يجيب “مبدئياً، دخل هذا المشروع الجديد، الواقع الى جانب المجمع العسكري، في مرحلته الثانية، لكن، كما تعلمون، تمويله من خزينة وزارة الأشغال، وطبيعي أن يواجه الآن مشكلة الأموال، وهذه مشكلة شاملة. والحلّ المقبل قد يكون بالشراكة بين القطاعين العام والخاص من خلال BOT أو PPP” ويستطرد روكز بالقول “في كل حال، أي مشروع يُنفذ وحيداً يتأثر سلباً بتعطل المشاريع الأخرى، بمعنى أنه ما نفع أن يُنجز مشروع مرفأ جونيه السياحي، والطرقات من والى جونيه غير معبدة والخدمات مرجأة وأزمة السير مخيفة ومشروع الأوتوستراد الساحلي مجمّد!
لسنا نتكلم سياحة طبعاً في الوقت الذي تشهد فيه البلاد إشكاليات طويلة عريضة ولكن، كي لا نقف مكتوفي الأيدي، علينا أن نبحث عن حلول منتجة “تنجينا” من الموت شبه الحتمي وتتضمن هذه القطاعات المنتجة السياحة والزراعة والتكنولوجيا. وهو ما ورد، بحسب روكز، في خطة ماكينزي. وهنا يتطرق الى “وجوب التفكير جدياً بمشروع توسيع أوتوستراد جونيه، وهو بتمويل دولي من البنك الأوروبي وأمواله مرصودة والإستملاكات تُممت، ويمتد من نهر الكلب الى طبرجا”.
نتكلم عن مشروع فنصل الى سواه، ونتكلم عن حالة فندخل في متاهة. فكل شيء يترابط في لبنان. لكن، هناك سؤال لاح في بال الكثيرين: ماذا عن قدرة مرفأ جونيه القديم على استقبال بعض البواخر التي تقل القمح والمواشي كما في أيام الحرب؟ وبالتالي، ألا يمكن أن يتكافل مرفأ جونيه القديم ويتضامن مع مرفأ بيروت المنكوب؟
نشأ مرفأ جونيه القديم أيام الرئيس فؤاد شهاب، الذي أراده أن يخدم جونيه، ومنذ ذاك الحين هناك “ناس مع وناس ضدّ” فبعض الكسروانيين تذمروا منه وقالوا إنه “حجب عنهم البحر ولم يفدهم بشيء” في حين يذهب كثيرون، في الذاكرتين القريبة والبعيدة، الى أيام “القصف والراجمات والبكاء والموت والهروب في زوارق تنقل ركاباً، وقع بعضهم في البحر، ونساء حوامل كدن يلدن في البحر. ذكريات ذكريات لا تنتهي.
المرفأ القديم من ثلاثة أحواض: حوض عسكري وثان لليخوت، يستخدمه نادي اليخوت والسياحة، وثالث كان يفترض أن يكون سياحياً وهو استخدم لصيادي السمك وزوارق النزهات القصيرة على خليج جونيه. تسكن كارمن زغيب، إبنة الخبير الدولي للإتصالات السلكية واللاسلكية البحرية أنطوان زغيب الذي أصبح في دنيا الحق، في مبنى مطل على البحر والخليج و”البور” والذكريات. والدها كان يراقب الإشارات من البواخر التي تدخل وتخرج من والى مرفأ جونيه. وجهاز اللاسلكي الكبير الذي كانت تصدر عنه الإشارات كان في منزل أنطوان وكان كل أفراد البيت يساعدون في “الإرشاد” حتى والدة كارمن وجدتها. كانوا يسمونهم عائلة “جونيه راديو”.
تغوص زغيب أكثر في الذكريات حين “تحوّل المرفأ في الحرب الى خليط من أعمال الشحن ونقل الركاب والطحين والسكر والمواشي. وقيل عنه في تسعينات القرن الماضي “المرفأ الإنساني” الذي مكّن الناس من الصمود. وتقول: طُلب من والدي يوم تهدم “راديو بيروت” إستخدام الموجات البحرية في إرشاد السفن عبر مرفأ جونيه، ففعل تحت مسمى “راديو جونيه” وأصبح بحكم المسؤول عن البواخر والسفن وأصبح منزلنا صالون تشريفات، وكل ذلك “مجاناً”، كما عمل الصليب الأحمر. وكانت بواخر الشحن الآتية تقف بعيدة عن الشاطئ وتذهب لملاقاتها قوارب صغيرة تُفرّغ فيها البضاعة”.
هل نفهم من هذا أنه يمكن استخدام المرفأ حالياً لاستقبال البواخر المتوسطة مثلاً؟ إيلي سلامة الذي كان يشغل سابقاً، قبل أن يتقاعد، رئاسة قسم الدراسات يخبر: “ما يُميّز خليج جونيه انه كان طبيعياً ـ شكّلته الطبيعة، واستخدم أيام الإنتداب العثماني لتموين المناطق، وبنى حينها العثمانيون سوق جونيه القديم وضمّنوه مخازن القمح والبضاعة التي تصل عبر الخليج المائي في سبيل تموين المنطقة. واستمرت بواخر القمح في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر تصل من تركيا واستمر العمل، في زمن الإنتداب العثماني، في شكل متواضع وطبيعي، الى أن تقرر لاحقاً، في ستينات القرن الماضي، أيام الرئيس فؤاد شهاب بناء مرفأ له ثلاثة أرصفة. إنتهى العمل في المرفأ العام 1968 وشارك في إنشائه المقاول الأحدب، وهو من طرابلس، وأتوا بالصخور التي بنوه بها من أرض محاذية لكازينو لبنان. طول المرفأ نحو كيلومتر واحد واستخدم في بدايات الحرب اللبنانية لنقل الركاب والبضائع بين لبنان وقبرص. وأضيف إلى هذا المرفأ سنسول عام 1992 وأنشئ نادي الضباط والحمام العسكري وأصبح الحوض الجديد المجمع البحري للجيش اللبناني. هل نفهم من هذا أنه يمكن استخدام مرفأ جونية القديم، بشكله الحالي، في الحركة التجارية؟ يجيب “هذا المرفأ هو للبواخر الصغيرة، بعمق خمسة أمتار كحد أقصى، وفي الحرب دخلته البواخر الصغيرة فقط، لأن البواخر الكبيرة بحاجة الى عمق. ويستطرد: المرفأ الجديد سيكون على عمق 20 متراً. ورصدوا له 35 مليار ليرة لبنانية. وقيمة هذا المبلغ تلاشت. ومتابعة الأشغال أصبحت مستحيلة”.
أشغال المرفأ السياحي الجديد
ما رأي عضو بلدية جونيه فادي فياض، وهو مدير جمعية “اصدقاء المدينة” التي يرأسها النائب المستقيل نعمت افرام بحال المرفأ؟ يجيب “هناك بور الصيادين، السياحي في الاصل من أيام فؤاد شهاب، ويضم صالة للمسافرين طالبت جمعيتنا بتأهيلها في العام 2016، على أمل أن يُصار، منذ ذاك الحين، الى فتح خط جونيه -لارنكا – جونيه، واستقبال البواخر التي لا يزيد عمقها عن أربعة أمتار وتتسع لـ 300 راكب، الى حين يتم الإنتهاء من إنشاء المرفأ الجديد لاستقبال سفن “الكروز” السياحية الكبيرة التي تتسع من 2000 الى 2500 سائح. أتتصورين أي فورة ستشهدها المنطقة وكل الجوار لو حصل ذلك؟ أردنا أن نفتح “البور” الحالي سياحياً لنكون مستعدين عند الإنتهاء من أشغال المرفأ السياحي الجديد. ويستطرد: تكلفة المشروع الجديد 100 مليون دولار (والمبلغ محدد بالعملة اللبنانية) وقسّمت الدولة الأعمال على ثلاث مراحل: نفذت من المشروع المرحلة الأولى فقط. نتمنى أن تتم متابعته بالشراكة مع القطاع الخاص، ونجزم بأن مردوده سيكون سريعاً، لذا الجدوى من إنجازه ضرورية الآن أكثر من أي يوم آخر”.
لم يتنازل الصيادون عن حقهم في المرفأ، فتعرقل تحويل المرفأ الى سياحي، مع العلم “أن الأعمال لحظت رصيفاً للصيادين” على ما قال فادي فياض. لماذا؟ يجيب: “ثمة أسرار ليس بنيتي الكلام عنها. راقبوا المرفأ ليلاً الذي يخلو من أي “كونترول” (مراقبة) تتأكدون أن لا أحد يعرف لا من يدخل إليه ولا من يخرج منه”. هل نفهم من كلامه أن تهريباً يحصل؟ ألا يوجد جيش وجمارك وأمن عام هناك؟ يجيب “ثمة مراكز عسكرية لكنها شاغرة. لدى الأمن العام مكتب عند طرف ATCL وهناك مركز صغير لمخابرات الجيش. وحده الدفاع المدني البحري ناشط وفعال”.
هنا “الرئاسة”
يبدو أنه بات لزاماً على كل من يقف عند مشارف مرافئ لبنان الغناء مع عازار حبيب “يا بحر الـ موجك أزرق شو حاوي أسرار”. لكن، هل نتهم البحر والمخطئون في مكان آخر؟
كارمن زغيب تتمشى يومياً بجانب مرفأ جونيه وتتكلم معه وتسأله، منذ انفجار مرفأ بيروت: “لو كان البابا لا يزال على قيد الحياة كيف كان ليتصرف مع الباخرة التي شحنت نيترات الأمونيوم إلينا؟ وتستطرد: القصة حصلت في 2014 ووالدي توفي في 2007. لم يكن يسمح بدخول أي باخرة لا ترفع حتى العلم اللبناني. وصهري، زوج شقيقتي، يذكرنا بأنه اقترب ذات يوم من المرفأ على باخرة يملكها تحمل اسم “لبنان” ولا ترفع العلم اللبناني. منعه أبي من الدخول، وسطّر بحقه “ضبطاً”.
مرفأ جونيه الحالي لا يصلح لاستقبال بواخر كبيرة، لا للسياحة ولا للشحن، والمرفأ الجديد معلّق من جديد، وهذه المرة مع كل لبنان، فالمال المرصود فقد كل قيمته.
ننظر في عمق البحر، نستدير بنظرنا 360 درجة. خليج جونيه بالفعل جميل. وفي بحره ثروة سمكية تشبه فاكهة لبنان المشكلة. نرى بعض الصيادين يرفعون السرغوس والمليفا والمرمور… نبتعد بالبال قليلاً عن الخليج فنتذكر اللبنانيين الذين “يبعطون” مثل السمكة بحثاً عن إشارات حياة و”قيامة”.