كتب علي شندب في “اللواء”:
بلع رئیس المجلس النیابي نبيه بري كل أدبیات وعبارات ومفردات المقاومة خلال إعلانه عن «اتفاق الاطار لترسیم الحدود البحریة والبریة مع إسرائیل». بل ویمكن القول مسحها بجرة لسان.
فاعلان «اتفاق الاطار» كان فصل الخطاب الحقیقي الذي جرى على لسان نبيه بري رئیس حركة أمل وتوأم زعیم حزب لله، عاریا من كل من أدبیات المقاومة. فغاب عن فصل الخطاب عبارات: العدو الإسرائیلي، العدو الصهیوني، الصهاینة، الاحتلال الإسرائیلي، الاحتلال الصهیوني، القدس الشریف، القدس المحتلة فضلا عن فلسطین المحتلة. كما حضر في فصل الخطاب إیاه عبارات: إسرائیل، الإسرائیلیین، حكومة إسرائیل، الحدود الإسرائیلیة.
انه الخطاب الرسمي اللبناني المقاوم والمتماهي مع الخطاب العربي المطبع مع إسرائیل. الخطاب الذي یشكل ولأول مرة اعترافا بالكیان الإسرائیلي وعلى لسان نبيه بري وبموافقة الجمیع من رئیس الجمهوریة الى اخر لبناني، أي باختصار بموافقة حسن نصرلله بیت قصید هذه الأدبیات، وصاحب الكلمة ما فوق العلیا في اتفاق اطار ترسیم «الحدود اللبنانیة الإسرائیلیة».
هذا ما حضر وما غاب في خطاب بري الترسیمي. وبعد یومین استعاد بري الأدبیات المقاومة التي أسقطت عمدا لا عفوا من خطاب الترسیم، وعاد لیبیع الماء في حارة السقایین، ویسمع الملأ ما اعتادت الناس وأحبت سماعه. فتحدث عن فلسطین والقدس بكونهما قطعة من السماء لا قطعة من الأرض.
مع هذا، فإعلان الاتفاق الإطاري كان له وقع آخر في البیئة الوطنیة العامة، وبیئة الثنائي الشیعي وحزب لله خاصة، فمن الناحیة العملیة ثمة شرخ وحرج أحدثه اعلان بري بدء مفاوضات الترسیم في وجدان جمعي، كما وفي أدب المقاومة وفكرها لكل البیئات المقاومة التي لم تستسغ هذه العبارات التي هبطت فجأة من فوقها وبموافقة مسبقة من حزب لله وزعیمه نصرلله.
أما في الأروقة والصالونات المسیحیة فقد اعتبر اعلان بري تعدیا على صلاحیات رئیس الجمهوریة. الصلاحیات التي رشق نصرلله بالأمس رؤساء الحكومة السابقین بتهمة التعدي عليها. لكن بري وبشطارته المعهودة قال بأنه «آخر من یخالف الدستور الذي یعطي لرئیس الجمهوریة الحق في المفاوضات والاتفاقات الدولیة، وما جرى هو اتفاق اطار، كالذي یدلك على الدرب التي یجب ان تسلكها فقط ».
فالمشرّع نبيه بري كما یعرف أن الدستور اللبناني لا ینص على أن اتفاق الاطار من صلاحیات رئیس الجمهوریة. یعرف أن الدستور لا یخوله ولا یمنعه كرئیس للبرلمان التفاوض على مثل هذا الاتفاق. لكن رئیس البرلمان اللبناني الذي هو أیضا رئیس حركة أمل توأم زعیم حزب لله الذي صنع رئیس الجمهوریة وأسكنه في قصر بعبدا، یملك بصفته هذه التخویل اللازم لإجراء ما یلزم.
من هذه الزاویة من التحكم بالحكم یمكن النظر الى تفسیر نبيه بري: «إنه اتفاق إطار». أي اتفاق على الاتفاق، وخارطة طریق، كما وانه دلیل رئیس الجمهوریة والفریق اللبناني المفاوض على الدرب التي یجب أن یسلكوها، وأن یسیروا بهديها، وألا یحیدوا عنها قید أنملة. وفي هذا تتجلّى صلاحیات رئیس الجمهوریة كما یرسمها ثنائي بري نصرلله.
وتوازیا مع اعلان وزیر الخارجیة الأمیركي مارك بومبییو ووزیر الطاقة الإسرائیلي یوفال شتاینتس، موافقتهما وترحیبهما بإعلان بري عن اتفاق الاطار، فقد كان مثیرا للاهتمام التغریدة التي أطلقها رئیس التیار الوطني الحر جبران باسیل وفيها: «.. هذه المرة علینا ان نفاوض لا على الطریقة الفارسیة، ولا على الطریقة العربیة، بل على طریقتنا اللبنانیة..».
صحیح أن استخدام باسیل عبارة «الطریقة الفارسیة» توحي وكأن الرجل بات من أشد مناهضي ولایة الفقيه والحرس الثوري الإیراني عداوة. لكن الصحیح أیضا، أن الرجل الذي لطالما بشّرنا أن لبنان بات دولة نفطیة، وخابت مساعيه الطاقویة خصوصا في الكهرباء، أراد بهذه العبارة التزلّف لدیفید شینكر علّه یقيه سیف العقوبات الأمیركیة المسلط. كما أراد الإیحاء لدور سابق له في ملف الترسیم خلال إشغاله وزارة الخارجیة وفشله مع رئیس الجمهوریة من انتزاع الملف من نبيه بري الذي كما باسیل جحّظ ابتعاده عن الفرس دون تسمیتهم، عبر تأكیده على الضمانة التي یمثلها المرجع الشیعي علي السیستاني لحمایة وحدة العراق. جدیر بالذكر أن بري وفي معرض الرد على العقوبات الأمیركیة التي استهدفت مساعده وساعده الأیمن علي حسن خلیل، وأیضا یوسف فنیانوس مساعد رئیس تیار المرده سلیمان فرنجیة، قد اشتكى من تأخر الامیركیین في تحدید موعد الإعلان عن
اتفاق الاطار، متجاهلا أن واشنطن أخرت الإعلان لأنها تریده في التوقیت الأمیركي تماما، أي بعد انتهاء الإدارة الأمیركیة من انشغالها بمراسم التوقیع على اتفاقیتي تطبیع العلاقات بین الامارات والبحرین مع إسرائیل. فقد أراد التوقیت الأمیركي للإعلان عن الاتفاق أن یشي وكأن لبنان بات جزءا من مناخ التطبیع في المنطقة رغم نفي بومبییو ومساعده شینكر لذلك. لكنه التوقیت الذي یصب في مصلحة المرشح دونالد ترامب الانتخابیة قبیل اصابته بفایروس كورونا، وذلك بهدف إظهار الدور القیادي المتقدم الذي یلعبه ترامب في منطقة الشرق الأوسط والعالم. فهل تعمّد الثنائي الشیعي وخصوصا حزب لله ظهیرة انقضاضهما على المبادرة الفرنسیة بوصفها المبادرة الوحیدة المطروحة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني من ما بعد الانهیار، تقدیم هدیة ثمینة للإدارة الأمیركیة او «الشیطان الأكبر» عند اللزوم؟
بدون شك دلتّ التطورات التفاوضیة، أن تقدیم التنازلات للأمیركیین بوصفهم الأصل المقرّر في مستقبل المنطقة، أكثر جدوى وفاعلیة من تقدیمها للفرنسیین بوصفهم الفرع المتفرع من الاستراتیجیة الأمیركیة، الذین وفي أحسن أحوالهم یعقدون مؤتمرا على غرار «سدر» یتسوّلون فيه مساعدات لأجل لبنان. في حین أن الامیركیین یستلون حالیا سیوف العقوبات التي قد تتحول في مرحلة لاحقة الى هدیر للأساطیل والبوارج حول لبنان وفوقه.
وبحسب دیفید شینكر الذي یمثل بلاده خلال مفاوضات الترسیم في الناقورة فان الولایات المتحدة ستستمر في تصنیف الأفراد الذین هم حلفاء حزب لله في لبنان، وأیضا في تصنیف أشخاص بسبب الفساد بموجب قانون ماغنیتسكي العالمي.
لكن جدید العقوبات، هو التشریع غیر المسبوق الذي قدمه رئیس لجنة الشؤون
الخارجیة والامن القومي في مجلس النواب الأمیركي النائب جو ویلسون، لفرض عقوبات موضعیة تستهدف مناطق جغرافیة محددة داخل لبنان، وتطال مصارف صدیقة ضمن مناطق نفوذ الحزب، وستشمل العقوبات في حال إقرارها سیاسیین أجانب ثبت تعاملهم مع حزب لله، كما وفي المثلث الحدودي الذي یضم الارجنتین والبرازیل والبارغواي. لكن قطار حزب لله وواجهته الحالیة نبيه بري قد انطلق على سكة التنازلات حمایة
من المخاطر المحدقة، التي مهّد لها نصرلله في كلمته لیلة عاشوراء الماضیة، عندما استحضر وبشكل مفاجئ «شجاعة الإمام الحسن» الذي سبق وأجرى الصلح مع معاویة بن ابي سفیان وفتح الطریق أمامه كي یصبح الخلیفة، وقال «نصرلله أن صلح الحسن هو الذي حفظ الإسلام سنة 41 للهجرة».. وقد كشف نصرلله عبر خطابه العاشورائي هذا عن تحول سیاسي تكتیكي كبیر ینفذه حزب لله یرجح أن یكون ملف الترسیم مع إسرائیل من بركاته، علّه یدرأ بعض المخاطر الوجودیة الوشیكة التي تتهدده.