Site icon IMLebanon

عهد الوفاق المفقود

كتب العميد الركن نزار عبد القادر في صحيفة “اللواء”:

 

انتخب العماد ميشال عون كرئيس للجمهورية في 31 تشرين أوّل عام 2016، وذلك بعد فراغ في موقع الرئاسة دام لفترة 29 شهراً، نتيجة تعطيل التئام المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد يحل مكان الرئيس ميشال سليمان الذي انتهت ولايته، وغادر سدة الرئاسة بهدوء وانتظام، وفق ما يفرضه الدستور والنظام العام للجمهورية اللبنانية.

بعد ثلاثة أسابيع يبدأ العد التنازلي لانتهاء عهد عون، بعد مضي أربع سنوات كاملة على بدئه، والتي يمكن اعتبارها كسنوات عجاف لم ينجح خلالها العهد في تنفيذ أي من الوعود التي استمر العماد في تكرارها منذ ان دخل قصر بعبدا كرئيس لحكومة مؤقتة، شكلها الرئيس أمين الجميل في نهاية «عهده» من أجل تأمين استمرارية السلطة بعد الفشل في انتخاب رئيس جديد يخلفه في رئاسة الجمهورية.

أقسم الرئيس عون بعد انتخابه على حماية الدستور وتحقيق الإصلاح ومحاربة الفساد، وقد فشل في تحقيق تلك الوعود، حيث استبيحت مواد الدستور والقوانين والأعراف من قبل اهل العهد وحلفائهم في حزب الله، كما فشل العهد وحكوماته في تنفيذ أية خطوة إصلاحية أو اتخاذ أي اجراء فعلي من أجل محاربة الفساد، والذي زاد خلال سنوات العهد اضعاف ما كان عليه في العهود السابقة.

انتخب الرئيس عون كنتيجة لتسوية رئاسية فرضها حزب الله من خلال الركون إلى فائض قوته السياسية، المدعومة بسلاح المقاومة، لكن انهارت هذه التسوية السياسية التي جرت هندستها مع الرئيس الحريري وتيار المستقبل، والتي كان قد انضم إليها حزب القوات اللبنانية من خلال وثيقة التفاهم مع التيار الوطني الحر برئاسة العماد عون بعد أقل من ثلاث سنوات من عمر العهد، وذلك نتيجة سوء أداء العهد في ممارسة السلطة، وجشع كل من التيار الوطني الحر وحزب الله في تغليب مصالحهم الخاصة على المصالح الوطنية، وعدم احترامهم لقواعد التسوية التي عقدوها مع الحلفاء.

لقد عمل العهد وحزبه، مدعوماً من حليفه حزب الله على الاستئثار بالسلطة ومنافعها، وبشكل نمطي، مما عرقل عمل وبرامج جميع الحكومات التي تشكّلت في ظل هذا العهد، مما سرّع استقالة الرئيس سعد الحريري من الحكومة بعد اندلاع الانتفاضة في 17 تشرين أوّل عام 2019، وتسريع تفسخ المصالحة المسيحية – المسيحية بين التيار والقوات، حيث عادت أجواء السخونة بينهما، والتي كات سائدة في فترة الثمانينيات التي سبقت حرب الإلغاء.

درجت العادة ومنذ بداية جمهورية الطائف ان يقوم الحكم في لبنان على قاعدة التوافق، ولكن مع الأسف الشديد كان التوافق مفقوداً منذ بداية هذا العهد. فالتوافق مفقود في توجهات العهد وممارساته السياسية منذ الأيام الأولى لانطلاقته، وهو مفقود فعلياً حتى مع الحلفاء والشركاء باستثناء حزب الله، والذي شكّل الرافعة الأساسية لانتخاب الرئيس عون، والضمانة الصلبة لاستمراريته.

كان التوافق مفقوداً على سلاح المقاومة وعلى العلاقة مع سوريا، وهذا ما دفع العديد من القوى السياسية والشرائح الاجتماعية إلى الشعور بأنها مهددة في استقرارها ووجودها. كما غاب التوافق على السياسة الخارجية، والتي شكلت في الماضي قاعدة التوازن والاستقرار لعلاقات لبنان العربية والدولية، ولقد تسبب غياب التوازن في علاقات لبنان العربية في عزلة لبنان عربياً، وبالتالي انقطاع المساعدات والدعم العربي عنه، مع تراجع محسوس للتدفقات المالية على شكل ودائع او استثمارات في مختلف القطاعات العقارية والخدماتية.

أدى فقدان التوافق العام في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والإنمائية وفي السياسة الخارجية وانتهاك مبدأ النأي بالنفس الذي اعتمدته جميع حكومات العهد في بياناتها الوزارية، إلى تقدّم دور دويلة حزب الله على الدولة، وهذا ما أدى إلى فقدان لبنان لكامل عناصر السيادة الوطنية. لم يقتصر فقدان عناصر السيادة على تفلت سلاح حزب الله من كل الضوابط التي تحصر قرار الحرب والسلم بمجلس الوزراء، بل تعدى ذلك لاتخاذ الحزب قراره المنفرد في التدخل في حروب المنطقة من سوريا إلى العراق ووصولاً إلى اليمن.

وكان اللافت تفلت خطاب الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله في جميع اطلالاته المتلفزة من كل الضوابط القانونية والشرعية، سواء في الشؤون الداخلية أو في شؤون العلاقات الخارجية مع الدول العربية والأجنبية، وهذا ما انعكس سلباً على الاستقرار السياسي الداخلي وعلى مصالح لبنان في الخارجية.

ندرج كل هذا التقصير «الفاضح» في أداء العهد وحكوماته قبل سنتين من انتهائه، علّه يتعظ من هول النتائج السلبية التي أدّت إليها سياساته والتي دفعت لبنان سياسياً واقتصادياً ومالياً للانزلاق نحو قعر الهاوية.

كما نرى من الضروري ادراجه في فترة التحضير للاستشارات الملزمة لتشكيل حكومة العهد الأخيرة، عله يحسن الأداء والاختيار لرئيس الحكومة العتيدة، وتشكيلة الحكومة من أشخاص اكفاء قادرين على إدارة البرنامج الاصلاحي اللازم لانتشال لبنان من الغرق، وبالتالي التعويض عن إضاعة سنة كاملة من الزمن، منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية إلى اليوم، وطيلة فترة حكومة حسان دياب، أو حكومة حزب الله كما درج الإعلام على تسميتها، والتي لم تسقط نتيجة تقصيرها في إنجاز أية إصلاحات، بل سقطت بفعل ارتدادات وتساقطات الانفجار الكبير في المرفأ والذي تسبب بتدمير ثلث المدينة وقتل ما يزيد عن 198 شخصاً وجرح ما يقارب 6500 مواطن.

لم يتقرر بعد من خلال الوقائع والقرائن الأسباب الكامنة وراء الانفجار المدمر، هل جاء نتيجة مؤامرة أو إهمال متماد شاركت فيه مختلف القيادات وصولاً إلى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، اللذين فشلا في اتخاذ القرارات اللازمة للتعامل مع مخزون ما يزيد عن طن من نترات الامونيوم، على ضوء الوقائع والمخاطر التي تضمنها تقرير مديرية أمن الدولة، الذي حذر بصراحة وواقعية من احتمال التسبب بكارثة كبرى، في حال انفجار هذه الكمية من النترات الموجودة في العنبر رقم 12.

مع تراكم فشل حكومة الرئيس الحريري، والتي وصفت بحكومة الوحدة الوطنية، التي سقطت تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، وسقوط حكومة دياب تحت ارتدادات انفجار 4 آب في المرفأ، ومع فشل الرئيس المكلف مصطفى أديب في تشكيل «حكومة مهمة» انطلاقاً من المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من قصر الصنوبر في أوّل أيلول الماضي، يقف العهد مربكاً، حائراً وعاجزاً امام استحقاق اجراء استشارات ملزمة لتسمية رئيس جديد لحكومة إنقاذية، ستكون دون شك آخر حكومات العهد.

لا بدّ ان يُدرك الرئيس عون ان المشكلة التي يواجهها في عملية البحث عن تشكيل الحكومة العتيدة لا تنطلق من التنوع الطائفي وحقوق الطوائف الكبرى، بل من الشروط التي سيضعها حليفه حزب الله على الرئيس المكلف على غرار ما فعله مع الرئيس أديب، حيث تقدمت مصالح الحزب الخاصة والمعطوفة على المصالح الإيرانية، مع كل من الولايات المتحدة وفرنسا على حدّ سواء، والتي حالت دون صدور تشكيلة «الحكومة المهمة»، وبالتالي إفشال مبادرة ماكرون. ولا بدّ ان يُدرك الرئيس عون أيضاً أهمية وحراجة استحقاق تشكيل حكومة إصلاحية قادرة على الإمساك بزمام القرار الوطني والاصلاحي وتحريره من الوصاية المفروضة عليه من قبل الثنائي الشيعي وحلفائه. لا يمكن ان تقوم قائمة الدولة الا بقيام حكومة متحررة من كل الارتهانات السياسية الداخلية والخارجية والتي كبلت جميع خيارات العهد وقراراته.

في النهاية لم يعد من الممكن للعهد اللعب في الوقت الضائع على غرار ما فعله مع حزب العهد المتمثل بالتيار الوطني الحر، والذي ركب الموجة الطائفية وحقوق المسيحيين لخدمة مصالحه الخاصة. لا يمكن أيضاً للعهد ان يضيع المزيد من الوقت في البحث عن حكومة تقليدية تقوم على قاعدة المحاصصات في وقت تشرف فيه البلاد على الغرق، فالمطلوب السرعة في تشكيل حكومة فعاليات قادرة على تحرير القرار الوطني واستعادة السيادة وإعادة بناء الدولة الرشيدة، وعلى غرار ما عرفه الحكم اللبناني من تجارب ناجحة في عهود سابقة لعهد الرئيس عون.