كتب حسين طليس في “الحرة”:
تقع منطقة برج حمود في الضاحية الشرقية لمدينة بيروت، على امتداد نحو 3 كلم مربع، ويقطن فيها أكثر من 160 ألف نسمة بينهم نحو 150 ألف لبناني من أصول أرمنية لجأوا إلى لبنان بعد المجازر التي تعرضوا لها مطلع القرن العشرين.
استوطنوا لبنان وباتوا جزءاً من النسيج اللبناني، لهم حضورهم التمثيلي في البرلمان والحكومة والحياة السياسية اللبنانية التي تضم 3 أحزاب أرمنية تتوزع عليها ولاءات المجتمع الأرمني الطاشناق والهنشاك والرامغفار.
هذا الواقع جعل من برج حمود بقعة جغرافية تقع في دولتين في الوقت عينه، لبنان ماديا وأرمينيا معنويا، يحمل أهلها الولاء للبلدين معاً ويتأثرون بأزماتهما بالتزامن، فيناقش السكان الأرمن في شوارع برج حمود أزمة لبنان الاقتصادية وسعر الدولار فيه جنباً إلى جنب مع أزمة أرمينيا الحدودية مع أذربيجان والحرب الدائرة على إقليم “ناغورنو قره باغ”.
يستذكر جاك، وهو رجل أربعيني، في حديثه مع موقع “الحرة” واقعة شهدها عام 1993، حين فقد صديقين أرمنيين من برج حمود بالتزامن، كل منهما سقط في دولة، الأول راح ضحية قصف إسرائيلي في جنوب لبنان، في حين سقط الثاني في أرمينيا خلال مشاركته في الحرب المندلعة حينها في الإقليم نفسه بين أرمينيا وأذربيجان. تلك الواقعة تقدم أفضل نموذج عن وحدة المسار والمصير التي ربط بها أرمن لبنان أنفسهم مع “الوطنين”، الوطن الأم أرمينيا، والوطن “الحاضن” لبنان.
يلاحظ المتجول اليوم بين أزقة برج حمود كيف تنقسم شاشات التلفاز في المحال التجارية وعلى شرفات المنازل، قنوات لبنانية تتابع تداعيات الأزمة، وأخرى أرمنية تواكب مسار الحرب الدائرة هناك، والناس تتأثر بالأخبار الواردة حول البلدين.
يعيش أرمن لبنان في ظل أزمة اقتصادية أنهكتهم، مثلهم مثل باقي اللبنانيين، وهم، وبسبب قربهم من مرفأ بيروت، فقدوا 15 شخصاً راحوا ضحية الانفجار الذي وقع في 4 آب المنصرم، فضلاً عن عشرات الوحدات السكنية التي تضررت بشكل بالغ، ويرفض سكانها التخلي عن وجودهم فيها.
في الوقت نفسه عشرات الشبان الأرمن تركوا عائلاتهم ومنازلهم في لبنان ليلبوا “نداء الواجب”، ملتحقين بصفوف الجيش الأرميني في أرمينيا للدفاع عن “الوطن الأم”، كما يحلو لهم تسميته، وصد “الخطر الوجودي” الذي يتعرضون له.
خطر “الإبادة” مجدداً
لا تتحدث مع أحد من برج حمود، إلا و”الإبادة” أول هواجسه، فالشباب المحمل بذكرى إبادة جدوده والمشبع بقصص الاضطهاد التي عانوا منها إبان حكم السلطنة العثمانية، يرون أنهم يتعرضون لنفس المخاطر من الجهة نفسها.
“إحساسنا من الصعب تفسيره وفهمه إلا لمن نشأ وتربى على القضية الأرمنية” يقول كريكور إيكزيان وهو يتابع من مقهى صغير على أحد مفارق شارع “أراكس” مجريات الحرب في أرمينيا. “هذا بلدنا وذاك بلد جدودنا، ولأننا أصحاب الحق سننتصر ولن نسمح لتركيا وأذربيجان أن يسلبوننا متراً واحداً من أرضنا بعد كل ما فعلوه بنا عبر التاريخ، وطننا يخوض اليوم معركة وجود وسنقف إلى جانبه ولن نسمح بتكرار المجزرة.”
يؤكد الشاب العشريني أن هناك شباناً يذهبون كل يوم إلى أرمينيا من برج حمود. يقول: “قبل أن تندلع الحرب، كان عدد كبير من الشبان يتجهون إلى أرمينيا للعيش هناك وتأسيس مصالح لهم بعدما فقدوا الأمل بلبنان ووضعه الاقتصادي. بعد اندلاع الحرب ازداد عدد المتجهين إلى يريفان لكن هذه المرة من أجل الدفاع عن شعبنا، واذا اضطررنا سنذهب جميعاً من هنا، لأننا بالدرجة الأولى نخوض معركة كرامة وبالنسبة إلينا هذه الحرب هي تتمة لمخطط إبادة الأرمن التاريخي.”
هذا ليس واقع الشبان المتحمسين فقط في برج حمود، على ما يؤكد الشاب، بل إن الكبار في السن أكثر حماساً واستعداداً للذهاب إلى أرمينيا إذا تطلب الأمر، “إنهم الجيل الذي عاش آثار الإبادة والتهجير، ونقلوا لنا ما جرى”.
“دم جدي لم يجف بعد عن أرض أرمينيا” يشاركنا صاحب المقهى كيڨورك أباجيان الحديث بصوت مرتفع على مسمع الجميع. يضيف: “من الطبيعي أن نحزن على الضحايا في أرمينيا، بيننا وحدة حال ومصير، نحن نحترق هنا وإن سمحت لنا الظروف وتطلب الأمر سنذهب لنساعدهم ونساعد وطننا الأم، ومع ذلك نتمنى لهذه الحرب أن تنتهي سريعاً.”
مرتزقة أم مقاومة؟
اتهمت حكومة أذربيجان الجيش الأرميني باستقدام ما وصفتهم بالمرتزقة من الأرمن اللبنانيين والسوريين، في المقابل تتهم أرمينيا تركيا باستقدام مرتزقة من المجموعات المسلحة التابعة لها في سوريا وليبيا.
في هذا الإطار، يرى النائب عن حزب الطاشناق الأرمني، هاغوب بقردونيان، أن “استقدام أذربيجان وتركيا لهذه المجموعات حولت الحرب الدائرة في “أرتساخ” (وهو الاسم الأرمني لـ “قره باغ”)، من حرب بين دولتين إلى حرب على الإرهاب ومجموعاته المستقدمة، في المقابل نرى أن هذا العدوان يستهدف كل الشعب الأرمني في أرمينيا أو لبنان أو حتى في أميركا الجنوبية. ”
ينفي بقردونيان أن يكون هناك أي شكل من أشكال التجنيد او العسكرة في برج حمود، ويؤكد أن الأحزاب الأرمنية الـ3 لم تتدخل في تجنيد من قرروا الذهاب إلى أرمينيا، “بعضهم ذهب قبل الحرب وبعضهم كان سائحاً وبقي هناك، ولا أحد يستطيع أو يقف بوجه من يريد الذهاب من هنا للدفاع عن وطنه الأم كما دافعوا عن لبنان من قبل، فالشعور الوطني لدى الأرمن أكبر من ولاءاتهم الحزبية أو السياسية، في المقابل نتلقى اليوم انتقادات واسعة من قبل بعض الشبان المتحمسين واتهامات لنا بالتقصير.”
ويتابع بقردونيان: “نحن نساعد بكل إمكاناتنا السياسية والدبلوماسية والمالية والإعلامية، عسكرياً حتى الآن الجيش الأرمني ليس بحاجة لعناصر متطوعة أو إمكانات، لديه الأسلحة المتطورة والقدرات والخبرات الكافية، وحين يتطلب الأمر بحث آخر، لكن في جميع الأحوال لا نقبل بتسويق وصف مرتزقة، فالمدافعون عن وجودهم وبلادهم وأمتهم وأرضهم وشعبهم وكينونتهم واستمراريتهم لا يمكن وصفهم بالمرتزقة إنما هم مقاومون وبعضهم خاض خدمة العلم في أرمينيا التي طلبت الاحتياط أصلاً، أما المستقدمون من غير جنسيات واعراق ويشاركون في حرب لا تتعلق بهم هم المرتزقة وباتوا معروفين ومعروف من يستقدمهم ومن أين”.
هل يتأثر لبنان؟
بالتزامن مع الحديث عن ذهاب مقاتلين لبنانيين أرمن إلى يريفان للمشاركة في الحرب، خرجت أصوات في لبنان تحذر من تأثر علاقات لبنان الدولية بهذه المشاركة إن لناحية العلاقة مع أذربيجان أو لناحية العلاقة مع تركيا، كما سبق أن حصل إبان مشاركة حزب الله في الحرب السورية والتداعيات السلبية التي لحقت بلبنان إثر ذلك.
يرى النائب بقردونيان أن هذا الأمر “ليس في الحسبان الأرمني، ولا تأثير للأمر على علاقات لبنان الدولية فالموضوع ليس لبنانيون يقاتلون في أذربيجان، وانما شعب أرمني يناصر بلاده، ومفهوم النأي بالنفس والحياد لا يمكن تطبيقه حين يكون بلدنا وشعبنا الأرمني بخطر ومن حقي أن أقاوم بكل الوسائل المتاحة، لي الحق بالوقوف الى جانب أصلي وجذوري والتي اذا ما نكرتها سأنكر لبنانيتي يوما ما”.
تركيا أصل الاستفزاز
كان الدخول التركي على خط الحرب الدائرة بمثابة نقطة تحول بالنسبة للأرمن في لبنان وبقية دول انتشارهم. فالعدو التاريخي للأرمن هو أكثر ما يستفز شعورهم الجماعي ويدفعهم نحو الوحدة.
يتابع سيمون قسطنطينيكن مجريات الحرب عبر هاتفه على تطبيق “يوتيوب” يشاهد من محله الصغير المدرعات والمدفعية الأرمنية بحماس، ويستفزه بشدة مشهد الطيران التركي يقصف أرمينيا.
يقول الرجل الستيني: “من المؤكد أنني مستعد للقتال إذا أتيحت لي الفرصة، الشعور بالحزن لا يوصف ونحن نشاهد الخطر يحدق بأراضينا التي حافظنا عليها لمئات السنين وتعرضنا للإبادة خلال تمسكنا بأرضنا وصمودنا فيها، تعود تركيا اليوم لتقصفها، في حين كل ما تريده من هذه الحرب هو السيطرة على مقدرات أذربيجان وأرمينيا على حد سواء، أردوغان يعلم انه لن يستطيع ان يكسر الأرمن اليوم، لكنه يعلم أنه بدعم أذربيجان ضد أرمينيا سيحقق مكاسب من نفطها وغازها وأرضها التي لطالما كانت محط أطماع له.”
هو أيضا يراها حرباً وجودية، ويرى التدخل التركي تجديد للمطامع والنوايا “العثمانية”، يقول: ” إذا خسرنا ارتساخ سنخسر كل شيء، لن نسمح بذلك في هذا الزمن”.
الأمر نفسه بالنسبة للشابة ماريا غيراغوسيان التي تعمل في محل لبيع الهواتف الخلوية في شارع أرمينيا، “كان الدخول التركي عامل موتر لنا جميعاً، ولكل الأرمن خارج أرمينيا، غير ذلك شكل الحرب وباتت أكثر استفزازاً، أقاربي توجهوا إلى يريفان بعد التدخل التركي، نتواصل معهم بشكل يومي، شباب وصبايا، نتابع ما يجري معهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نتواصل معهم وندعمهم ونتمنى لهم النصر في هذه الحرب، ونحن كنساء لدينا دورنا في لبنان وفي أرمينيا وحين يطلبوننا سنذهب للقتال أو للتطبيب أو للعمل اللوجستي لا فرق.”
ابن شقيق جاك هو الآخر كان في زيارة سياحية لأرمينيا حين اندلعت الحرب، كان يبحث أيضا عن عمل هناك، انضم سريعاً للمتطوعين في القتال، يقول: “في البداية قلقنا عليه جداً وطلبنا منه العودة إلى لبنان، لكن بعد دخول تركيا على خط الحرب جعلنا نشعر بالخجل من مطالبته بالعودة، ربينا جميعنا على مواجهة عدونا التاريخي وحماية أنفسنا”.