أراد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من مبادرته أن تكون حبل إنقاذ للبنان بعد الكارثة النكبة التي حلت عليه في 4 آب، فلم يجد اقتراحا أفضل من الدعوة إلى تشكيل حكومة من الاختصاصيين المستقلين عن الطبقة السياسية. غير أن كل ما سجلته البلاد من أحداث من الزيارة الأولى لماكرون إلى بيروت غداة انفجار المرفأ، يثبت أن أحدا لم يتعلم شيئا من تجارب الماضي القريب والبعيد. ذلك أن ما إن أدار ماكرون ظهره عائدا إلى بلاده المتخبطة في كثير من صراعات الداخل والخارج، حتى عاد جميع الأفرقاء المحليين إلى متاريسهم الطائفية المعروفة وإلى لعبة التعطيل والانتظار المضني في زمن انتخابات الولايات المتحدة والاستعدادات لمرحلة التسويات في المنطقة.
هكذا، خرج الرئيس المكلف مصطفى أديب مرغما من الصورة الحكومية بعدما رفض الرضوخ لمطالب وشروط الثنائي الشيعي. لكن هذه ليست الخلاصة الوحيدة الواجب الخروج بها من تجربة تكليف أديب.
وفي السياق، لفتت مصادر مراقبة عبر “المركزية” إلى أن هذه التجربة أعادت إلى الضوء معطيات كان المراقبون تناسوها في مرحلة معينة، على اعتبار أن هذا المسار الحكومي أبرز وحدة حال ممثلي الطائفة الشيعية، وقدرتهم على فرض ايقاعهم وخياراتهم الموحدة على الساحة السياسية، بما فيها الدفع في اتجاه قلب الأمور رأسا على عقب، وهو ما جرى مع أديب تحديدا، بعدما حاول الثنائي الشيعي فرض اطاحة خيار المداورة، وإجبار الرئيس المكلف على القبول بوزير المال الذي يدعمه الطرفان، وهما اللذان لا يخفيان استفادتهما من فائض القوة التي يوفرها لهما السلاح غير الشرعي.
وفيما البحث في هذا الملف الاستراتيجي الخلافي مؤجل إلى موعد قد لا يحدد لاحقا، أكد الثنائي الشيعي أن تجاوزه مستحيل في تشكيل الحكومات، كما في الاستحقاق الرئاسي وقانون الانتخابات وسواها من الاستحقاقات الكبيرة.
أما على الضفة السنية، فالأمور لا تختلف كثيرا، مع فارق وحيد يكمن في غياب ورقة السلاح. ففي وقت يعيش فيه تيار المستقبل أزمة سياسية وشعبية، ملأ رؤساء الحكومات السابقون، ربما من حيث لا يدرون، هذا الفراغ، وأصبحوا مرادفا للنبض السني الشعبي، وهو ما يفسر انتظار الجميع اتفاق هؤلاء على اسم الرئيس المكلف المقبل ليبنوا على الشيء مقتضاه السياسي.
وإذا كان الرئيس سعد الحريري من المفترض أن يعطي إشارات مهمة في هذا المجال في خلال إطلالته التلفزيونية مساء، فإن المصادر نبهت إلى أن الأطراف المسيحيين لا يشاركون السنة والشيعة هذه الوضعية السياسية المريحة. بدليل أن التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية مشغولان بتبادل السهام والهجمات السياسية، فيما تطبخ على نار الانتظار الحكومة. في المقابل، لا يزال الخلاف قائما بين العونيين والمردة، في ظل الانعدام التام في الاتصالات الهادفة إلى ردم الهوة بين الطرفين.
لكن المصادر شددت على أن الأمور لا تقف عند هذا الحد، بل تنسحب أيضا على المعسكر المقابل، أي العلاقات بين معراب وكل من بيت الوسط وبكفيا. فمع الحريري، الخلاف لا يزال من دون معالجة جذرية منذ الاستشارات التي انتهت إلى تكليف الرئيس حسان دياب. اما مع الكتائب، فحدث ولا حرج. ذلك أن العلاقات المتوترة بين الطرفين تلقت ضربة قاسية مع استقالة نواب ابحزب من المجلس النيابي بعد انفجار المرفأ. ففيما لم تقدم القوات على خطوة مماثلة لممارسة المعارضة من الداخل، حاول البعض اقناع رئيس الحزب سامي الجميل بالتراجع عن الخطوة، من دون جدوى. واليوم وغداة الفشل في مناقشة قانون انتخابي جديد تعارضه القوات كما التيار، على عكس الكتائب، غرد رئيس القوات سمير جعجع، مطلقا هجوما لاذعا في اتجاه “المزايدين”.
أمام كل ما تقدم، دعت المصادر إلى العمل على خلق نوع من الاطار التوحيدي المسيحي، وإن في الحد الأدنى، ليعود للموقع المسيحي تأثيره في مسار الأحداث، بدلا من انتظار الآخرين، مع العلم أن هذا ما يهدد الاستشارات بالتأجيل في اللحظات الأخيرة.