كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
شكّلت المبادرة الفرنسية الفرصة الوحيدة، وربما الأخيرة، لتشكيل حكومة في عهد الرئيس ميشال عون، ومع إجهاض هذه المبادرة لا مؤشرات تدل الى انّ التكليف فالتأليف أمر ممكن.
إنّ دعوة رئيس الجمهورية الكتل النيابية إلى استشارات التكليف في محلها، لأنه ليس من مصلحته أن يتحمّل تَبعات عدم الدعوة بحملات سياسية تتهمه بخرق الدستور، فيما أثبتت الوقائع انّ الاستشارات من دون مشاورات جدية لا مناوراتية لا جدوى منها، والدليل البَلبلة التي أحدثتها دعوته التي وضعَ فيها الجميع أمام مسؤولياتهم في البحث عن حلّ حكومي بدلاً من أن يُبقي البحث عن هذا الحل في حُضنه وداخل دائرته، الأمر الذي عَرّضه سابقاً لانتقادات كان في غِنى عنها.
فالسقف الزمني الذي حَدّده، ألزَمَ الجميع بفتح باب التشاور في محاولة للاتفاق على هويّة الرئيس المكلف، فيما المشكلة الفعلية هي في التأليف لا التكليف، والدليل انّ الرئيس المعتذِر مصطفى أديب اعتذرَ بسبب تَعذّر الاتفاق على طبيعة الحكومة العتيدة على رغم الزخم الفرنسي الذي رافَق مساعيه، هذا الزخم الذي من غير المعروف بعد ما إذا كان سيُلاقي دعوة الرئيس عون من أجل تزخيمها واحتضانها وإيصالها هذه المرة إلى شاطئ الأمان.
ولكن بمعزل عن إحياء المبادرة الفرنسية أم عدمه، ماذا تبدّلَ في مواقف القوى السياسية ليسمح بتأليف حكومة؟ لا يوجد أي تبدُّل لغاية اللحظة، فـ”حزب الله” يتمسّك في كل مواقفه بما أنتجته الانتخابات النيابية وحق الكتل بتسمية الوزراء وهو في غير وارد التراجع عن حقيبة المالية، فيما الفريق الآخر يعتبر انّ اعتماد الأسلوب نفسه في تأليف الحكومات سيقود إلى النتيجة نفسها، أي تعذُّر تحقيق الإصلاحات المطلوبة، ما يعني عدم تَلقّي المساعدات التي من دونها لا إمكانية لفَرملة وتيرة الانهيار المالي.
فالخلاف هو بين وجهة نظر تُقارِب التشكيل بموضوعية تامة بعيداً عن أي تسييس لهذا الملف وهمّها الطاغي إنقاذ البلد من الأسوأ، وتنطلق في نظرتها من مقاربة تبسيطية وحقيقية وهي انّ الإصلاح لا يمكن ان يتحقق عن يد القوى التي حالت دون تحقيقه، والدليل انّ هذا الإصلاح لم يتحقق في حكومة اللون الواحد المستقيلة، ولا في الحكومات التي سبقت، ما يعني انّ فريق 8 آذار لا يريد الإصلاح. وطالما انّ الشرط الدولي الأساس لمساعدة لبنان هو القيام بالإصلاحات، فلا خيار إذاً إلّا بتشكيل حكومة مستقلة عن القوى السياسية تماماً.
أمّا وجهة النظر الأخرى، التي يمثّلها الحزب، فتتلطّى بالجانب السياسي لإخفاء عدم استعدادها لتحقيق رزمة الإصلاحات المطلوبة، وبمعزل عمّا إذا كانت هواجسها السياسية فعلية ام مصطنعة، إلّا انها لا تريد تشكيل حكومة لا تُمسك بالأكثرية داخلها او لا يكون لديها القدرة على تعطيلها بالثلث المعطّل او الفيتو المذهبي بالحد الأدنى، وذلك في ظل مخاوفها من مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية وما يمكن ان تشهده من تحولات في لبنان والمنطقة، خصوصاً انّ هذه التحولات بدأت في أكثر من مكان، ولا يريد الحزب ان تكون الحكومة أداة تنفيذية لسياسة تخالف توجهاته.
والمشكلة في هذا العرض والتشخيص انه في حال سَلّم الفريق الأول بوجهة الفريق الثاني فهذا يعني انّ الحكومة أصبحت لزوم ما لا يلزم، لأنّ ايّ حكومة مُشَكّلة من القوى السياسية لن تقوم بالإصلاحات، ولن تحظى بثقة الخارج ولا الداخل، فيما لا يبدو انّ الحزب في وارد التراجع عن وجهة نظره ولو أنّ رفع الدعم الاضطراري عن السلع الحياتية الأساسية سيؤدي إلى غليان اجتماعي يصعُب تَوقّع انكعاساته على مستوى الدولة والاستقرار.
وإذا تعذّر الاتفاق على الشخصية التي ستؤلف الحكومة، فقد يُطلب من رئيس الجمهورية أن يرحِّل استشارات التكليف إلى وقت آخر، خصوصاً أن لا نية لفريق الأكثرية بتشكيل حكومة أكثرية ستكون نسخة طبق الأصل عن حكومة الرئيس حسان دياب، وأمّا في حال تم التوافق مع نادي رؤساء الحكومات على تَسمية محددة فإنّ الرئيس المكلّف سيكون محكوماً بالسقف الذي وضعه الرئيس أديب، اي الاعتذار مجدداً إذا لم يتمكن من تأليف الحكومة التي تجسِّد طبيعة الأزمة ومتطلباتها.
والتعقيد الذي طَرأ على المشهد الحكومي واختلفَ عن المرحلة السابقة وبات يستدعي الاتفاق على التأليف قبل التأليف، هو الموقف الدولي الرافض تقديم المساعدات لحكومات سياسية، وتضم تحديداً فريق 8 آذار، كما انّ هذا النوع من الحكومات أصبح مرفوضاً من الناس ومن بعض القوى السياسية، فيما التكليف قبل هذه المرحلة كان محسوماً باتجاهين: الرئيس سعد الحريري او مَن يسمّيه، او حكومة من لون واحد، والخلاف في التأليف كان حول الحقائب والأوزان، بينما الخلاف اليوم هو حول تكوين الحكومة بحد ذاتها.
والمعادلة الضمنية التي يضعها «حزب الله» تتمثّل بالآتي: إمّا الإبقاء على الحكومة المستقيلة، التي هي حكومته، بانتظار اتّضاح الصورة الخارجية ومعالم المرحلة، ومحاولة القيام بما يلزم منعاً للغليان الشعبي، واستطراداً الفوضى. وإمّا تشكيل حكومة يملك القدرة على تعطيلها بالأكثرية او الثلث او الفيتو، أي تعطيلها ديموقراطياً لا عسكرياً، لأنه ليس في المرحلة التي يستطيع فيها استخدام سلاحه بسهولة.
وإذا كان ثمة استحالة لتأليف حكومة مستقلة تماماً، وإذا كانت الحكومة التكنوسياسية لن تحظى بضوء أخضر خارجي، فإنّ كلّ ملف التشكيل يصبح لزوم ما لا يلزم، ويعني استمرار لبنان في دائرة الفراغ بانتظار المعطيات الخارجية التي ستقوده هذه المرة ليس إلى تشكيل حكومة، بل إلى تغيير نظام، لا سيما بعد ان قررت واشنطن ربط المساعدات بالإصلاحات، وتعتبر انه بين العقوبات المشددة على «حزب الله»، والتي تَوسّعت لِتطال شخصيات قريبة منه وتنتمي إلى قوى أخرى، وبين الحصار على طهران الذي لن يرفع قبل ان تلتزم بالشروط الأميركية، وبين الإصلاحات التي تضع حداً لمنظومة الفساد التي تشكل غطاءً للحزب وشريكاً له، فإنّ سياسة محاصرة الحزب تكون قد اكتملت فصولاً لِدفعه إلى تسوية على سلاحه ودوره بالتزامن مع التسوية الإيرانية التي تكون بدورها قد استوَت.
والمُلاحَظ انّ فرنسا تعاملت ببرودة مع دعوة رئيس الجمهورية الى الاستشارات، ولا يُعرف بعد ما إذا كانت ستتخلى عن هذه البرودة وتدخل بقوة على خط التشكيل في الأيام المقبلة، ولكن في حال حافظت على برودتها فهذا يعني انّ باريس لا تريد ان تسجِّل على نفسها فشلاً إضافياً او تفشيلاً جديداً، كما يعني ان لا حكومة في الأفق، وانّ لبنان أمام 3 سيناريوهات:
السيناريو الأول، ان تتحول أزمة التأليف إلى أزمة نظام تدفع باريس، في التوقيت الأميركي، إلى الدعوة لتغيير النظام السياسي بما يتوافق مع الهندسة التي يعمل عليها للمنطقة.
السيناريو الثاني، ان يتعرض لبنان لحدث كبير يقود إلى تأليف سريع لحكومة، ولو انتقالية.
السيناريو الثالث، ان يؤدي رفع الدعم الاضطراري إلى فوضى اجتماعية تُبقي لبنان في هذه الحالة بانتظار اللحظة الخارجية المواتية.
والثابت في كل هذه السيناريوهات انّ العودة إلى وضع طبيعي من دون تغيير النظام السياسي أصبحت مستحيلة، فهل القوى السياسية تستعد لهذه اللحظة تَجنّباً لمفاجآت لا تتوقعها، أم انها غارقة في يومياتها السياسية من دون تنظيم أوراقها وصفوفها وتحالفاتها وتقاطعاتها استعداداًَ لمؤتمر دولي للبنان سيُعيد هندسة البلد لمرحلة طويلة؟