كتبت هيام القصيفي في جريدة الأخبار:
في مكان اختير بعناية، يبعد عن الحدود أقلّ من ثلاثين متراً، في نقطة لا وجود فيها للجيش اللبناني، وفي مركز أنشأته القوات الدولية لغايات التفاوض غير المباشر بعد حرب تموز، وفي قاعة تتّسع لأربعة وفود، سيجري التفاوض غير المباشر بين لبنان و«إسرائيل»، عبر الأمم المتحدة والوفد الأميركي. اجتماع اليوم عبارة عن كلمات لرؤساء الوفود، في جلسة قد تكون حفل افتتاح فحسب، إذ لن تحدد روزنامة العمل وجدول مواعيد الجلسات المقبلة إلا في اللحظات الأخيرة، علماً بأن الروزنامة المستقبلية ستكون مرتبطة أيضاً بالوفد الأميركي وبطبيعة عمل السفير الأميركي المكلف متابعة التفاوض، والوفد الدولي وكيفية التنسيق لعقدها برعايتهما، إضافة الى تدابير الحجر والعزل لكل وفد في ما يتعلق بكورونا.
في الساعات الأخيرة، حسم أمر التفاوض بعد لغط دام لساعات وكاد يهدد العملية برمّتها، وحسم شكل الوفد اللبناني الذي أثير الجدل حوله ليرسو على ضابطين ومدنيين، واحد منهما (وسام شباط) بتدخل سياسي مباشر من رئيس التيار “الوطني الحر” النائب جبران باسيل، والآخر نتيجة خبرته في القانون الدولي وتنسيقه مع الجيش في هذا الملف، ولا سيما أن المؤسسة العسكرية تفتقد مثل هذا الموقع القانوني الدولي. لكن الوفد بإمرة الجيش وبإشراف رئاسة الجمهورية.
ليست المرة الأولى التي يتولى فيها الجيش التفاوض غير المباشر مع «إسرائيل»، وهناك حالياً تفاوض عبر لجنة ثلاثية في الناقورة أنشئت بعد حرب تموز. لكن عملية اليوم تتخذ أهمية استثنائية، نظراً الى طبيعة المهمة والرهان الاقتصادي عليها كـ«آخر خرطوشة»، إذا ما أسفرت عن اتفاق يليه تنقيب لبنان عن ثروته النفطية. لا يعني الجيش الإطار السياسي ولا الإقليمي المتعلق بأيّ تفاوض مع «إسرائيل»، فهو أولاً ينفذ أوامر السلطة السياسية. وثانياً، لأن انطلاقة التحضير لديه كانت ولا تزال عملية تقنية، وإصراره على تشكيل الوفد التقني منذ بداية العمل على التفاوض غير المباشر انحصر في هذا الإطار.
فالتفاوض لن يشمل كلمة سياسية واحدة، علماً بأن الجيش أعدّ «فرضه» التقني بعناية وسيناقشه في الناقورة تقنياً، والتقرير يرفع الى السلطة السياسية لاتخاذ القرار. وهنا السلطة تعني رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. هو الذي حدد الوفد وأعطى توجيهاته الأخيرة له، وهو الذي سترفع إليه التقارير. ما خلا ذلك، لا علاقة للجيش به، لأن الأمر يتعلق برئيس الجمهورية وأركان السلطة. لكن لا شك أن الجيش يشعر «بمسؤولية كبيرة ويأخذ مهمّته بجدّية ورصانة كبيرتين»، كما يشعر بنوع من التمايز نتيجة اتفاق القوى السياسية على الوثوق به في هذه المهمة، وخصوصاً في مرحلة سياسية حساسة ونتيجة تعليق الآمال على تحصيل حقوق لبنان البحرية المرتبطة بقطاع النفط. الرئيس نبيه بري كان حريصاً على وجود قائد الجيش في مقدّم الحضور مطلع الشهر الجاري عند إعلانه اتفاق – إطار التفاوض، والقوى السياسية من كل الاتجاهات رحّبت بدورها بهذه العملية.
منذ ستة أشهر بدأ التحضير العملي. والضابطان المختاران «يملكان معرفة واسعة وعميقة بملفّهما» منذ ما قبل اختيار اسميهما ورفع قيادة الجيش لهما الى القصر الجمهوري. الأول نائب رئيس الأركان للعمليّات العميد الركن الطيّار بسام ياسين. كان قائداً لكلية القيادة والأركان يرغب في التقاعد المبكر، لكن قائد الجيش العماد جوزف عون أصرّ عليه البقاء. ضابط طيار يقول عنه عارفوه إنه يعرف ملفّه بحكم خبرته الطويلة في هذا الموضوع، يتقن الإنكليزية بجدارة، عدائي عند اللزوم، وحادّ، لا ميول حزبية لديه ولم يعرف عنه ولاء سياسي، وطني بتعبير عارفيه، ولا يفرّط بحق لبنان براً أو بحراً أو جواً. ميّزته الأساسية، وأهمّ صفة لديه أنه بارع في العمل مع مجموعة، وهذا ما يكسبه نقاط قوة في إدارة الفريق الذي يترأّسه. ياسين هو المكلّف رئاسة الوفد والكلام وحده باسمه، وعند الحاجة هو الذي يعطي الكلام لأعضاء الوفد الثلاثة الآخرين لتبيان أي تفصيل أو شرح ما. كلمة لبنان ستكون تمهيديّة بشكر الأمم المتحدة والولايات المتحدة كراعيين، وتتضمن شرحاً لأهداف لبنان وتمنّيات حول النتائج. وقد وضعتها قيادة الجيش وخضعت لتنقيح ودراسة مطوّلة لكل كلمة، ووافق عليها رئيس الجمهورية، علماً بأن تقارير الجلسات ستكون موثّقة من الأمم المتحدة وترفع الى الجهات المختصة في بيروت وتل أبيب.
لا صورة تذكارية جامعة مع الوفد الإسرائيلي، هكذا كان القرار النهائي الذي أُبلغ الى الأمم المتحدة. وتعليمات قيادة الجيش للوفد واضحة: لا سلام ولا مصافحة ولا إيماءة للوفد الإسرائيلي، ولا كلام مباشراً ولو للحظات. الضبّاط يعرفون ذلك عن ظهر قلب، في كل الدورات خارج لبنان أو الاستقبالات الدبلوماسية، التعليمات واضحة ويصبح تنفيذها تلقائياً لدى العسكريين، لكنها أُبلِغت بحرص شديد الى العضوّين المدنيّين.
الضابط الثاني مازن بصبوص عقيد ركن بحري، امتلك خبرته خلال إعداده لدورة الأركان التي اختار عنوان البحث فيها الحدود البحرية. برع في تحضير بحثه على مرّ السنوات التي سبقت اختياره لهذه المهمة منذ أن كان برتبة رائد، وكان له دور في إنشاء مصلحة خاصة في الجيش تعنى بالهيدروغرافيا، مطّلع على ملفّات النزاعات البحرية الدولية ومتعمّق في الملف اللبناني، وقد أكسبه ذلك سمعة علمية في الوسط العسكري والسياسي. يتمتّع بقدرة على شرح ملفه بتسلسل منطقي وعميق. وعلى غرار رئيس الوفد، يتمتع مازن بصبوص بطبع حاسم غير مساوم، وولاء وطني لا سياسي أو طائفي. ويؤكد الجيش أن قيادته لم تختر الضابطين لاعتبارات طائفيّة، وكذلك العضو الثالث، نجيب مسيحي، الذي اختير لأنه «ضالع في هذا الملف ويمتلك خبرة قانون دولي وجرت تزكيته من أكثر من مرجع استشاري لاختيار أسماء شخصيات يمكن أن تفيد لبنان». مسيحي متطوّع للعمل على هذا الملف ومتعاون الى أقصى الحدود مع الجيش منذ وقت طويل في التحضير لملفّ حساس وشائك. جمعته ببصبوص اجتماعات عدة تنسيقيّة تفصيليّة، كذلك الأمر مع ياسين. ولاحقاً، عقد أعضاء الوفد الأربعة، بعدما ظهرت أول معالم التركيبة، اجتماعات عمل تنسيقية.
حسم رئيس الجمهورية شكل الوفد وعدده، علماً بأن وباء كورونا كان له أيضاً دور في تحديد الأمم المتحدة عدد أعضاء الوفود، الذين سيكونون موجودين في غرفة واحدة. وبعد استبعاد المدير العام للقصر الجمهوري أنطوان شقير وقبله مدير مكتب وزير الخارجية، هادي هاشم، أصرّ باسيل على إشراك عضو هيئة قطاع البترول، وسام شباط، في الوفد. وبحسب الجيش، تدرك القوى السياسيّة أنّ سقف التفاوض الذي كُلِّفت به المؤسّسة العسكرية سقف تقني فحسب، وأنّ أعضاء الوفد الأربعة لديهم بحسب مطّلعين على الاجتماعات رؤية موحّدة حول عدم تفريط لبنان بحقوقه، ولا اختلافات بينهم على طبيعة العمل أو الاستراتيجية المعتمدة للتفاوض.