كتب حبيب معلوف في صحيفة “الأخبار”:
أكثر من أيّ وقت مضى، باتت الكوارث أكثر ارتباطاً بعضها ببعض، وأصبح العالم واحداً أمامها، من دون أن يكون موحّداً في سبل مواجهتها وإدارتها.
الشهر الماضي، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أنّ «الإنسانية ستهلك» إذا لم تتكاتف دول العالم في مواجهة قضية تغيّر المناخ، وفي حال سارت على منوال الانقسام نفسه الذي شاب مواجهتها لجائحة «كورونا»، علماً بأن أزمة تغيّر المناخ العالمي أخطر بما لا يقاس من أزمة الوباء، على الأقل لناحية عدد الوفيات التي تتسبّب بها (حصد «كورونا» مليون ضحية خلال 9 أشهر، فيما أودى تلوث الهواء بسبعة ملايين شخص عام 2018 بحسب منظمة الصحة العالمية)، فضلاً عن الأضرار الاقتصادية التي لا تقلّ فداحة جراء الجفاف والفيضانات والتسبب بارتفاع حرارة الأرض وذوبان الجليد وظهور فيروسات جديدة كانت قد تجمّدت سابقاً في المحيطات والأنهر ويمكن أن تتسبّب بانقراض الكثير من الأنواع الحيّة وتهدّد أنواعاً أخرى، بينها النوع الإنساني نفسه.
مشكلة عدم التعاون بين الدول لحل مشكلات عابرة للحدود لم تبدأ مع الجائحة ولن تنتهي معها. لا بل يمكن الجزم أنها لن تنتهي إلا بكوارث أكبر على المستويين العالمي والمحلي. وليس السبب في ذلك مزاجية رؤساء الدول فقط، بل طبيعة الأنظمة المسيطرة أساساً. إذ لن تستطيع أنظمة تقوم على قواعد التنافس في الأسواق العالمية أن تتصدّى لقضايا تحتاج إلى تعاون. وفي أزمة «كورونا»، مثلاً، فإنّ إنتاج اللقاحات هو من ضمن قواعد السوق القائمة على التنافس.
ورغم كل الضجة حول «كورونا»، فإن الحديث عن الفيروس سينتهي بمجرد إعلان اكتشاف التركيبات للأدوية والأمصال واللقاحات وطرحها في الأسواق… أما تغير المناخ فهو أكثر تعقيداً وخطورة، ويرقى إلى القضايا الوجودية التي تحتاج إلى تغيير نظم حضارية بأسرها وأنظمة اقتصادية وثقافات وسياسات بكاملها، وليس مجرد لقاحات جديدة.
وبما أن وقع الكوارث المناخية ليس نفسه على الدول المصنفة متقدمة وتلك النامية، لجهة جهوزية التكيف معها وتحضير خطط الطوارئ للتخفيف من آثارها الكارثية، فإنه يفترض باستراتيجيات المعالجات أن تكون مختلفة أيضاً. والسؤال المحوري هنا هو: في حال تعثر الحلول على المستوى الدولي، هل يمكن القيام بشيء على المستوى الوطني أو الفردي؟
انطلاقاً من ذلك، على بلد، مثل لبنان، يصنف «منكوباً» وليس «نامياً» فحسب، أن يعتمد نهجاً جديداً في التعاطي مع القضايا الاقتصادية والبيئية والصحية المترابطة في طبيعتها، مع تعاون دولي أو من دونه.
ليس هناك، بالطبع، أمل بالطبقة المتحكّمة، كما لا يمكن الرهان على المساعدات الدولية التي تأتي عادة ضمن أجندات مختلفة، في طليعتها تلك المتعلقة بتسويق ما أنتجه العلم والتكنولوجيا والصناعات في البلدان المنتجة. وإنما الرهان، بالدرجة الأولى، على قوى مجتمعية جديدة، تحمل رؤية جديدة وتضع على أجندتها استراتيجيات تربط بين القضايا كافة وتسعى إلى بناء دولة تتبنّى هذه الاستراتيجيات. ولن تكون هذه المهمة سهلة، إن لناحية وضع الرؤية المحافظة والمتقشّفة بطبيعتها ولا في تبنّيها، أو لناحية إيجاد من يحملها. صحيح أن الوضع الاقتصادي المتدهور قد يشكّل حافزاً للبناء، إلا أنه قد يشكّل، في الوقت نفسه، في بلد ينخره الفساد، دافعاً إضافياً للفوضى أو لحفلة جديدة من الاستغلال والاستثمار والاحتكار. وهذا ما يجعل المهمة أكثر صعوبة.
وعناوين هذه الرؤية الأساسية، لمن يريد أن يتصدّى، هي أولاً وضع الإطار العام لاستراتيجية بيئية وتنموية شاملة، تقوم على تقدير المعطيات الطبيعية لطبيعة لبنان واحترامها وحفظ ديمومة أنظمتها الإيكولوجية… وعلى أساسها تتأسّس كل السياسات والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أما على المستوى العملي، وبما أنّ قطاعَي الطاقة والنقل هما المسبّبان الرئيسيان لتلوث الهواء والتغيّر المناخي وزيادة الوفيات، على لبنان أن يعتمد سياسات تقشفية في النقل بإعادة إحياء السكك الحديد وتفعيل النقل العام والاستفادة من تجربة حجر الـ«كورونا» واعتماد أساليب جديدة للعمل من المنزل لتخفيف التنقل والتلوث، وسياسات جديدة وتوفيرية في استهلاك الطاقة، وتشجيع ودعم إنتاج الطاقة المتجددة المتوفرة (من شمس وهواء وتدفق مياه)… هذه السياسات التي لم تدرج يوماً في بيانات الحكومات وبرامجها، رغم أنها لا تحتاج إلى الكثير من العملة الصعبة ولا إلى تكنولوجيات كبيرة ومعقّدة واحتكارية، بل إلى أن تترجم في قوانين تنظّم وتشجع وتدعم استيراد موادها الأولية عبر الإعفاءات من الرسوم الجمركية وتشجيع تصنيع التكنولوجيا بدل استيرادها، ولاسيما السخانات والألواح الشمسية ومراوح الهواء…
هكذا استراتيجيات وسياسات، على سبيل المثال، تساهم في دعم الاقتصاد الحقيقي وتؤمّن مزيداً من فرص العمل، وتخفف من التلوث ومن الفاتورة الصحية في آن. وإذا لم تساهم الكوارث في تغيير السياسات في بلد مفلس، فما الذي يمكن انتظاره بعد؟