كتبت ليا القزي في صحيفة “الأخبار”:
في 15 أيلول، اجتمعت غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان للمصادقة على السنة الماليّة، رغم أنّ مجلس إدارتها مُنتهية ولايته. يتكرّر الأمر للمرة العاشرة، وهو ليس حكراً على هذه الغرفة، فالغرف التجارية والصناعية والزراعية الأربع مُعطّلة، بعدما تحوّلت إلى منصّة للعمل السياسي وتوزيع الخدمات الزبائنية، بعيداً عن أي رؤية اقتصادية. وحين طُرح موضوع «إصلاحها»، كان الهدف تعزيز نفوذ طائفة على حساب أخرى
في لبنان أربع غرف تجارية وصناعية وزراعية، موزعة حسب التقسيم القديم للمحافظات: الشمال، البقاع، الجنوب، بيروت وجبل لبنان. أقدم الغُرف هي طرابلس، تعود إلى الـ 1870، والغرف الأربع سبق تأسيسها وبدء مهامها مرسوم إنشائها الذي صدر في 28 كانون الأول 1996. الغرفة «الصغيرة» فيها 18 عضو مجلس إدارة (زحلة والبقاع)، أما في كل من بيروت – جبل لبنان وطرابلس، فعددهم يرتفع إلى 24 عضواً. آلاف الأعضاء في كلّ منها، وأدوار مُتنوعة أُنيطت بها، وملفات تبدأ بالتجار وتنتهي بسائق الـ«بيك آب»… والغُرف «عاطلة عن العمل». الكسل يسود في غُرف لا تقوم سوى بحماية مصالح مجموعة مُحدّدة من رجال الأعمال والتجّار والمُحتكرين والنافذين، حتى ولو ادّعت تمثيل حقوق كلّ الصناعيين والمزارعين والتُجار. يكفي أن يُجيب رجل أعمال، عضو في أحد مجالس الإدارة، عن السبب الذي دفعه للانتساب والترشح إلى المنصب بـ«إنّو هيك، وقتها حكيوني وترشحنا»، لأخذ «فكرة» عن كيف تحوّلت الغرف إلى «منصّة بروز» لهذه الفئة. الرجل نفسه لم يعد يُشارك في الاجتماعات حتّى، مُعلّلاً بـ:«لشو؟ بلا طعمة».
ما آل إليه وضع الغُرف، مُفيد في نسف نظرية أنّ القطاع العام (و«الدولة») مُترهل ومُعطّل، ويضرب «صدقية» الدعاية المُروّجة لأهمية أن يتسلّم القطاع الخاص إدارة المؤسسات العامة وتوفير الخدمات للمواطنين. ويُثبت أنّ الدولة لم تُصبها «العِلل» إلا بعدما حوّلها أولياء أمرها إلى محميّات شخصيّة، مُستغلين وجودهم فيها لإضعافها خدمةً لمصالح «الخاص».
ما الذي أدّى إلى تردّي الأوضاع؟ يُجيب رئيس لجنة الاتفاقيات التجارية في غرفة بيروت وجبل لبنان، ناجي مزنّر بأنّ «قسماً كبيراً يملك طموحاً سياسياً، في حين أنّ المفروض وجود فصلٍ بين الاثنين».
الغُرف الأربع تتشارك في ما بينها انتهاء صلاحيات مجالس إدارتها منذ أكثر من خمس سنوات. وعدا عن أنّها «غير شرعية»، دورها مُعطّل ذاتياً بفعل اللامبالاة، والتعامل مع أمر «بسيط» كالدعوة إلى عقد اجتماع كما لو أنّه «ترف» بالإمكان «التنازل» عنه. متى كانت آخر مرّة دعت فيها غرفة بيروت وجبل لبنان الى اجتماع لهيئة المكتب أو لمجلس الإدارة؟ كم عدد الذين يُشاركون في الاجتماعات متى حصلت؟ وماذا يُناقشون؟ يُجيب أحد الأعضاء بأنّه «نجتمع مرّة كلّ 9 أشهر تقريباً، ومُعظم الأعضاء لا يُشاركون لأنّه لا يؤخذ برأيهم، ومنهم من اعتكف بسبب المحسوبيات، وإجمالاً تكون الاجتماعات فقط للمصادقة على السنة المالية، كما حصل في 15 أيلول».
ليس من المفترض أن يُصيب الغرف الخمول. فبحسب القانون الخاص بها، أُنيطت بها مهام عدّة، وأبرزها: تقديم المشاريع والاقتراحات للحكومة التي تؤدّي إلى تنمية التجارة والصناعة والزراعة وسائر الشؤون الاقتصادية، إبداء الرأي في ما يُطلب إليها. عُرّف عنها بأنّها «مؤسسات ذات نفع عام، تُعنى بالمصالح التجارية والصناعية والزراعية… تخضع لرقابة وزارة الاقتصاد، وعليها أن تُرسل (إلى الأخيرة) كلّ سنة تقريراً عن أعمالها وصورة عن ميزانية السنة اللاحقة وعن الحسابات الختامية للسنة المالية». وخلافاً لما قام به كلّ من عدنان القصار (رئيس مجلس إدارة غرفة بيروت وجبل لبنان بين 1972 و2005) ومحمد شقير (رئيس مجلس الإدارة الحالي، انتُخب سنة 2010)، «لا يجوز تعاطي الأعمال التجارية أو التدخل في الأمور السياسية أو الدينية ولا تقديم أية مساعدة أو معونة بالذات أو بالواسطة إلى الأحزاب السياسية».
ما يقوله سياسيون ورجال أعمال أنّ الغُرف تحوّلت «إلى مراكز نفوذ لتيار المستقبل». تكرّس ذلك مع «صديق» آل الحريري، محمد شقير. يُخبر أحد أعضاء مجلس إدارة غرفة بيروت وجبل لبنان أنّ «الغرف مركز خدماتي لتيار المستقبل عبر التوظيفات، وتؤمّن نفوذاً كبيراً، فبهذه الصفة شارك شقير في مؤتمر سيدر الفرنسي».
المرّة الوحيدة التي اندلعت فيها «شرارات تغييرية» كانت بعد الـ 2010، حين فتح التيار الوطني الحرّ ملفّ فصل غُرفتَي بيروت وجبل لبنان، وتعديل القانون، وإنشاء غرفة لمحافظة كسروان (الفتوح) – جبيل. مشكلة «التيار» أنّه أخضع الملفّ لـ«مزاجيته» مع تيار المستقبل، فحين تقاربا طُوي ملفّ الغرف. بالإضافة إلى مقاربته من زاوية تعزيز نفوذ «المسيحيين» داخل الغُرف. فحين طُرح ملف فصل بيروت عن جبل لبنان، كانت «الشكوى» من أنّ الوجهة العامة للغرفة يُحدّدها تجار بيروت، في حين أنّ أعضاء جبل لبنان هم الأكثر عدداً. وبالحجّة الطائفية نفسها، أفشل «تجّار بيروت» مشروع الفصل. حالياً أُعيد في «الاقتصاد» تحضير مراسيم لانشاء غُرف في محافظات كسروان – جبيل، عكار، النبطية، وبعلبك – الهرمل. هل من حاجة لها، أم أنّها أيضاً جزء من «الجُزر» الطائفية؟ ينفي الوزير السابق فادي عبّود ذلك، «دور الغُرف أن تُنمّي مناطقياً، وإلّا لكان المُشترع تحدّث عن إنشاء غرفة واحدة لكل لبنان».
كان عبود أحد الذين عملوا على تعديل قانون الغُرف، يؤكد أنّه «يجب إعادة النظر به، فالتركيبة الحالية للغرف لا تُسهّل الدور الأساسي في عملية التصدير وتنظيم المعارض». يطرح عبّود مسألة «ممارسة الغرف عملية احتكارية بتصدير شهادات المنشأ، وزيادة رسوم تصديق الفواتير من دون وجود قانون»، رغم أنّ رئيس مجلس إدارة إحدى الغُرف يُنكر ذلك، مؤكداً «تنفيذ قرارات وزارة الاقتصاد».
حسابات الغُرف من النقاط التي يطرح عبّود تعديلها، «وأن تكون منشورة لجميع الأعضاء، ففي لبنان تصرف الغُرف التجارية على مجالات شتّى، أكثر ممّا تصرف على تشجيع الصادرات». وفي هذا الإطار، يُضيف أحد أعضاء مجلس إدارة غرفة بيروت وجبل لبنان أنّ «القانون يُعطي صلاحيات كبيرة للرئيس، ما يُسهّل أن لا تكون المصاريف واضحة، أو تُستغّل الإيرادات من الانتسابات والتصاديق «لتمويل الحملات السياسية الخاصة، أو تلزيم صيانة مبنى الغرفة بـ 7 ملايين دولار لأحد أصدقاء رئيس مجلس الإدارة». تحت شمسية «الصلاحيات»، أفتى شقير – مثلاً – بـ«ترفيع» أمين المال في الغرفة، نبيل فهد إلى مرتبة نائب رئيس، رغم أنّ القانون لم ينص سوى على وجود نائبين للرئيس.
الواجب هو استقالة كلّ الهيئات الاقتصادية بعدما ساهمت بالوصول إلى الكارثة
أكبر الغُرف التجارية والصناعية والزراعية هي بيروت وجبل لبنان، «ويبلغ حجمها قرابة الـ 90% من الغرف الأربع، لكنّنا لا نقوم بما يُفترض لأي غرفة القيام به»، بحسب أحد أعضاء مجلس الإدارة. لا نتحرّك إلا في حال قرّرت الهيئات الاقتصادية أن تعترض على فرض الضرائب».
عام 2014، انتُخب ثُلثا أعضاء مجلس إدارة غرفة بيروت وجبل لبنان، أي 16 شخصاً، ولم تُعيّن الحكومة الثلث المُتبقي. أدّى ذلك إلى استمرار عمل مجلس إدارة الـ 2010، لاعتباره أنّ «ولاية المجلس من الأعضاء المُنتخبين عام 2014، تبدأ كمجلس مُكتمل عند إجراء التعيين». يُخبر المدير العام لوزارة الاقتصاد، محمد أبي حيدر أنّ الأعضاء الـ 16 «باشروا مهامهم كمجلس إدارة تصريف أعمال بانتظار تعيين ثلث الأعضاء الباقين، إلا أنّ مرسوم التعيين لم يصدر. وعام 2018 انتهت ولاية الـ 16، واستمروا في ممارسة مهامهم ولم يبادروا قبل انتهاء ولايتهم بشهرين إلى دعوة الجمعية العامة للغرفة لإجراء انتخابات بحجة عدم صدور مرسوم التعيين».
عام 2015، انتهت ولاية مجلس إدارة غرفة صيدا، من دون إصدار دعوة لإجراء انتخابات جديدة. «السبّاقة» كانت غرفة طرابلس (أقدم الغُرف تأسست عام 1870)، التي انتهى مجلس إدارتها عام 2005 من دون تعيين آخر. أما في غرفة زحلة والبقاع، فتم انتخاب 12 من الأعضاء سنة 2015 من دون أن تُعيّن الحكومة الأعضاء الـ 6، ليستمر مجلس إدارة الـ 2001 بـ«تصريف الأعمال». ربط مدّة العضوية بصدور مرسوم التعيين، حُجّة باطلة تستخدمها الغُرف الأربع، ومخالفة للمادة 24 من المرسوم الاشتراعي الرقم 36 /67 التي لم تربط بين النقطتين. إلا أنّ الغرف تتسلّح باستشارة هيئة التشريع والاستشارات، التي ردّت في الـ 2019 على كتاب وزارة الاقتصاد، باعتبار أنّه «لا يُمكن بدء مهلة مجلس الإدارة قبل استكمال تعيين الأعضاء. والأعضاء مارسوا أعمالهم ليس بصفتهم مجلس إدارة، بل هيئة إدارة جماعية مُنتخبة، مارست مهام مجلس الإدارة استناداً إلى نظرية الوكيل الظاهري».
ولكن تعيين ثلث الأعضاء في «الغُرف» يتمّ بموجب مرسوم يتخذه مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزير الاقتصاد والتجارة. فلماذا لم يقم أي من الطرفين بواجبه؟ أولاً، «لم يكن أحد يُتابع من وزارة الاقتصاد. التواصل الوحيد كان زمن منصور بطيش حين وجّه في الـ 2019 كتابين إلى الغرف لحثّها على دعوة الهيئات العامة لانتخاب مجلس جديد، إلا أنّ أحداً لم يردّ عليه»، بحسب أحد أعضاء مجلس إدارة غرفة بيروت وجبل لبنان. أما داخل مجلس الوزراء، الذي يُعيّن ثلث أعضاء الغُرف «للحفاظ على التوازن الطائفي في حال أطاحت به الانتخابات»، فتعطّل التعيين بسبب «اشتراط التيار الوطني الحر تسمية الأعضاء المسيحيين ورفض تيار المستقبل للأمر»، كما ينقل أحد الوزراء السابقين، علماً بأنّ ناجي مزنّر يُبرّر بأنّ تعيين الحكومة لثلث الأعضاء، «بسبب ممارسة الغرف دوراً قنصلياً يتعلّق بتصديق شهادات المنشأ وإصدار بطاقات تعريف، وتجمع بين القطاع العام وقطاع الأعمال».
ما الحلّ إذاً؟ فاتح أحد المُتقاعدين من وزارة الاقتصاد، الوزير راوول نعمة بالموضوع، فردّ بأنّ «القضية سياسية وأتواصل مع محمد شقير لحلّها». اتصلت «الأخبار» وراسلت كلّاً من نعمة وشقير، من دون جواب. أما محمد أبي حيدر فيقول إنّه «يجب فور تشكيل مجلس الوزراء إيجاد حلّ، إما استكمال التعيينات، أو إجراء انتخابات جديدة وإتمام التعيين فوراً». ففي المرحلة المقبلة، «ننتظر من الغرف شراكة أكبر مع القطاع العام، وخاصة عبر جذب المستثمرين، ووضع رؤية لدعم صغار المزارعين والصناعيين، وتطوير القطاع الزراعي عبر إنشاء تأمين للمواسم والمزارعين»… بعيداً عن كلّ الخطط المستقبلية، الواجب بالنسبة إلى ناجي مزنّر هو «استقالة كلّ الهيئات الاقتصادية، ويُعاد النظر فيها، فما قامت به ساهم بالوصول إلى الكارثة الحالية».
المُزارعون رهن التجّار
لم يكتفِ لبنان بتأسيس غرف تجارية وصناعية، بل أضاف إليها قطاع الزراعة بطريقة عشوائية ومن دون أن يكون ذلك مُرتبطاً برؤية اقتصادية هدفها تطوير هذا القطاع المُنتج والأساسي، وحماية المُزارعين. فبات هؤلاء ومصالحهم تحت رحمة التجّار المُحتكرين، وخططهم التصديرية. يقول أحد أعضاء المجلس الاقتصادي – الاجتماعي إنّه «يجب تعديل القانون ونزع توزيع شهادات منشأ للتصدير من الغرف، فكيف يُوزّع التجار الشهادات للمزارعين والصناعيين الصغار؟ هؤلاء يبقون فقراء، فيما الخضر والفاكهة غالية، والتجار يُراكمون الثروات». يعود المطلب إلى سنوات ماضية، «حين اكتُشفت فضيحة إعطاء شهادات منشأ للبطاطا على أساس أنها من لبنان، قبل أن يتبيّن أنّها مضروبة بأمراض غير موجودة لدينا. يقوم التجار بذلك، للضغط على المزارعين لتقليص أسعارهم وتحقيق الربح على حسابهم».
الهيئات أم الغُرف؟
سؤال أيّ مسؤول عن الغُرف التجارية والصناعية والزراعية، كان يقود إلى جواب عن وضع الهيئات الاقتصادية بشكل عامّ. الترابط حدّ الدمج بينهما يعود إلى زمن عدنان قصّار، الذي حوّل نفسه إلى «دون كورليون» التجمّعين، قبل أن «يرثه» محمد شقير. في الستينيات، كانت جمعية الصناعيين ترأس الهيئات الاقتصادية، قبل أن يتمّ «التجّار» الانقلاب، وتُصبح غرفة بيروت وجبل لبنان هي رئيسة «الهيئات»، التي باتت تجتمع حتّى في مقرّ الغرفة الرسمي. يؤخذ على الهيئات أنّ أولوياتها لم تعد القطاع الخاص، وأصبحت «جزءاً من اللعبة، تلعب لعبة مُعلمها. أول مرة أعلنت الهيئات الإضراب كان خلال حكومة نجيب ميقاتي. لا يوجد أسوأ من الوضع الراهن، ولم نرَ موقفاً للهيئات»، يقول فادي عبود.