كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
حلَّت الذكرى الأولى لاندلاع انتفاضة تشرين الأول، احتجاجاً على تردّي الأوضاع الاقتصادية، ورفضاً للطبقة السياسية الفاسدة، مثقلة بأسئلة كثيرة، يتشارك في طرحها مؤيدو الانتفاضة ومعارضوها على حد سواء: ما الذي حققته هذه الانتفاضة من مطالبها؟ وهل أنتجت برنامجاً سياسياً، يمكنه جمع اللبنانيين الذين نزلوا بمئات الألوف إلى الشوارع العام المنصرم؟ شعارات كثيرة، رفعها المحتجون في تظاهرات كانت تزخم وتخفت، وفقاً للظروف: بناء دولة القانون والمؤسسات، ومحاربة الفساد، واستعادة الأموال المنهوبة، واستقلالية القضاء. على أرض الواقع يكفي النظر الى الملف الحكومي ومقاربة الطبقة السياسية لهذا الاستحقاق، للتأكد من أن شيئا لم يتغيّر وأن المسؤولين لن يتخلّوا عن المحاصصة وتقاسم النفوذ، حتى لو كان ثمن ذلك إهدار الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان وفق المبادرة الفرنسية.
أما اقتصادياً، فإلى الانهيار المتمادي في كل القطاعات، ما رفع نسبة الفقراء إلى أكثر من نصف الشعب، مع وجود نحو مليون عاطل عن العمل، بدأت الاستعدادات لوضع قرار وقف الدعم عن السلع الأساسية موضع التنفيذ في حين تهريب البنزين والمازوت والدواء والطحين إلى خارج البلاد على قدم وساق. وبعيداً عن تقييم نجاحها أو فشلها، ليست الانتفاضة سوى محطة نضالية في تاريخ لبنان، سقط فيها قتلى وجرحى، وتعرّض مناصروها للبلطجة والترهيب، وساهمت ظروف عديدة؛ منها جائحة «كورونا»، واستفحال الأزمة الاقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والهجرة، في انكفاء الناس وفي تكريس مناخ إحباطي، حتى لدى أكثر المتحمّسين للانتفاضة.
وقد يكون من أسباب خفوت الانتفاضة اختلاف الرؤية بين المجموعات الأساسية المشاركة، والتي لم تتفق إلا على النزول إلى الشارع. فمجموعات اليسار والشيوعيين حدّدت المشكلة في تحالف السلطة الأوليغارشية والمصارف، وبرَّؤُوا «حزب الله» من الفساد ومن السلطة. أما الجماعات المشاركة من مناصري الاحزاب السياسية فهي لم ترفع شعار إسقاط النظام، بل كانت مطالبها خدماتية معيشية: الكهرباء، العمل، إلخ… ومقولة خروج الجماعات عن طوائفها وزعمائها فيها شيء من المبالغة الثورية التي طغت على مشهديات الانتفاضة منذ بدايتها؛ لأن هذا الخروج كان مؤقتاً، منطلقه معيشي وليس سياسياً. وقلة قليلة كانت مستعدة للتخلّي عن زعمائها بسبب الارتباط الوثيق بين النواة الصلبة للجماعات وزعاماتها في نظام قائم على «الزبائنية»، وبسبب الخوف المتبادل بين الطوائف.
ترهيب أحزاب السلطة، وتحديداً «حزب الله» للمتظاهرين، خصوصاً للمسيحيين في بيروت، وللشيعة في النبطية وصور وكفرمان، لعب دوراً كبيراً في انكفاء الناس الى بيوتهم. وكذلك عدم انتاج اي صيغة سياسية وقيادية للانتفاضة، التي انطلقت في الاسبوعين الأولين بغضب عفوي، ثم سيطر عليها النشاط «الفولكلوري» لاحقاً أما الرهان على نزول الناس الى الشارع مع تدهور أوضاعهم الاقتصادية فلم يصحّ في الحالة اللبنانية. ففي الاسبوعين الأولين كان اللبنانيون لا يزالون في زمن الوفرة، الزمن القديم، في حين هم اليوم في زمن الشحّ، وأعدادهم في الشارع الى تراجع. اما شعار «كلن يعني كلن»، الذي تسيّد التظاهرات، فيمكن النظر اليه كأحد أسباب تفريق المتظاهرين ولم يجمعهم. وهو أطلق تجنّبا للتصويب مباشرة على «حزب الله»، وفق أحد الناشطين في الانتفاضة.
برأيه ان المجموعات كانت تهدف الى كسب الشارع الشيعي الذي شارك بداية في التظاهرات، لكنه خرج بعد طلب نصر الله منه. ويضيف: «كنا سذجاً قليلاً، لأننا اعتقدنا أنه بإمكاننا اجتذاب الجمهور الشيعي ببعض الشعارات. فلا ثورة يمكن ان تنجح من دونه، لكن التصاق الجمهور بحزب الله لا يتزعزع، ولو اكتوى من الجوع والفقر». فعاليات الذكرى الأولى وبمناسبة الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة تشرين الأول، شهدت مناطق لبنانية عدة نشاطات احتفالية، وتوافد عشرات من المتظاهرين من صور وطرابلس وبعلبك الى ساحة الشهداء، رافعين الأعلام اللبنانية، مردِّدين الشعارات التي نادت بها تحرّكاتهم منذ بدئها. وشدد المحتجون على «تمسّكهم بثوابت حراكهم ومبادئه، وعلى رأسها إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتنفيذ الإصلاحات ومحاكمة الفاسدين والسارقين واسترجاع المال العام المنهوب، إضافة الى محاكمة المسؤولين ومحاسبتهم عن انفجار «4 آب» ورفض استمرار السلطة الحالية».
وبهذه المناسبة، توجّه رئيس الجمهورية الى المتظاهرين، وقال «بعد مرور عام على انطلاقة التحركات الشعبية يدي لم تزل ممدودة للعمل معاً على تحقيق المطالب الإصلاحية؛ إذ لا إصلاح ممكناً خارج المؤسسات، والوقت لم يفت بعد». على الصعيد الحكومي، الكل بانتظار يوم الخميس المقبل موعد الاستشارات النيابية، في ظل تمسّك الرئيس سعد الحريري بترشحه، وتمسك جبران باسيل برفضه، في وقت تشير مصادر المستقبل الى ان الحريري لن يلتقي ولن يتصل بأحد قبيل حصوله على التكليف، وهو متمسك بمندرجات المبادرة الفرنسية لتشكيل حكومة اختصاصين، تعمل لفترة زمنية محددة. في مقابل المسار الأميركي، يستمر الفرنسيون في محاولاتهم لتأمين التوافق على حكومة الحريري. وأمس، جددت فرنسا دعوتها للمسؤولين إلى التوافق لتشكيل حكومة، واعتبرت أنه حان وقت «اختيار النهوض، بدل الشلل والفوضى»، وقالت وزارة الخارجية الفرنسية إن «تشكيل حكومة مهمّة قادرة على تطبيق الإصلاحات الضرورية لا يزال مؤجلاً، رغم الالتزامات التي أعادت مجمل القوى السياسية اللبنانية تأكيدها».
وفي الإطار، أكد المجلس السياسي للتيار الوطني الحر تمسّكه بالمبادرة الفرنسية، وبتشكيل حكومة مهمّة، يكون رئيسها ووزراؤها من أهل الاختصاص، وتكون إصلاحية منتجة وفاعلة برئيسها ووزرائها وبرنامجها، على أن تدعمها الكتل النيابية. وأجمع المجلس على «عدم تسمية الحريري، باعتباره ليس صاحب اختصاص»، ورفض المجلس السياسي «تسخيف الخلاف حول هذه النقطة، بتصويره خلافاً شخصياً، يمكن حلُّه بلقاء أو باتصال هاتفي».