كتب إيليا ج. مغناير في “الراي” الكويتية:
لا يريد الرئيس إيمانويل ماكرون الفشلَ في المبادرة التي تبنّاها في لبنان. فمسارُه الأولي لم يُكتب له النجاح لأنه لم يُتْقِن الحنكةَ السياسية اللازمة لمجابهة ألاعيب السياسيين اللبنانيين واعتقدَ أن «وزن» فرنسا كان كافياً ليقف الجميع «بالصف» وينفّذون أوامر «الأستاذ» الفرنسي. لم يدرك أن هناك «أساتذة» في لبنان يريدون تنفيذ أجنداتهم ومصالحهم، لكنه تدارك الأمر عبر محاولته الأخيرة بقبول رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لتشكيل حكومةِ إنقاذٍ تبدأ بمهمة لـ 6 أشهر وتبقى إلى أجَل مسمى هو الانتخابات المقبلة.
ولكن ما الذي يحصل الآن في المشاورات وكيف انقلبتْ الأمور والتحالفات؟ للمرة الأولى ظَهَرَ الحريري مُمْسِكاً باللعبة من أطرافها كلها كما أرادها هو. فحَرَقَ كل المرشحين السابقين بمَن فيهم رئيس الوزراء حسان دياب (وساعده في ذلك الرئيس نبيه بري)، وأكمل مشوارَه نحو مرشح الرئيس الفرنسي، مصطفى أديب، عبر إغراقه بشروطٍ تعجيزية أدت إلى فشله. فبدا كمَن عطّل المبادرةَ الفرنسية بنفسه ولكن الحقّ لم يكن «على الطليان» بل على «الثنائي الشيعي» الذي رُمي باتهاماتِ إحباطه المسعى الفرنسي.
الحقيقةُ هي أن الحريري عرف كيف يحرّك الخطوات بدقّة حين تم تحميل «الثنائي الشيعي» وزرَ إفشال مبادرة ماكرون واختبأ خلفه أيضاً الرئيس ميشال عون وكذلك زعيم «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بظهورهما وكأن لا مطالب لهما ولا هدف سوى دعم مبادرة ماكرون وإنجاحها. وبدا أن إصرار «الثنائي الشيعي»، أو بالأحرى «حزب الله» ظاهرياً وبري باطنياً، على وزارة المال ووزيرها أنقذ الجميع باعتذار الرئيس المكلف أديب ما حقق هدف الحريري وباسيل.
أما اليوم فصار اللعبُ على المكشوف بعدما أعلن الحريري أنه لا يريد «لبن العصفور» ليَقبل برئاسة الوزراء بل لأنه المرشّح الطبيعي لها، لكنه أدرك أن وصولَه لابد أن يمر عبر الاتفاق مع الأكثرية التي تصوّت له في مجلس النواب وليس تكتّل الأكثرية (الذي يضم الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر وحلفاءهما). فمجلس النواب يشهد اليوم تغييراً في التحالفات بعد الانقسام الداخلي الحاد وهو ما اعترف به رؤساء الكتل عبر إقرارهم بوجود اختلافات جوهرية وحتى عقائدية في ما بينهم.
ولذلك فقد اقتنص الحريري الفرصةَ ليذهب إلى «الثنائي الشيعي» ويتفق معه على وزير المالية ووزرائه في الحكومة العتيدة ما داموا تكنوقراط. وهذا يعني أنه لبّى الخطوة الأولى التي يحتاجها للوصول إلى سدة الحكم خصوصاً أن بري تكفّل بأن يصوّت له عددٌ من النواب المسيحيين كي يحافظ الحريري على الميثاقية والتوافق (نوعاً ما وظاهرياً ليس إلا).
وعرف الحريري كيف «ينام الزعيم الدرزي وليد جنبلاط على يده» بأن اتصل به ليُطَمْئنه الى أن «حصته محفوظة» ما دامت تكنوقراط. وهكذا استطاع ضمانَ تحقيق «النصر» على خصمه السياسي اللدود باسيل، ويضَعه في «خانة اليك».
لقد اضطر عون لتأجيل الاستشارات النيابية التي كانت ولاتزال تريد تكليف الحريري تشكيل للحكومة المقبلة. وقد فعل ذلك بناءً لرغبة باسيل الذي عرف أنه عُزل من حلفائه السياسيين الذين اختلف معهم في محطات عدة، وعلِم أن «ضربات تحت الحزام» أصبحت مسموحة ما دام وَضَعَها هو على الطاولة ابتداءً وأنها لم تعد محتكَرة منه فقط.
إلا أن تأجيل الاستشارات لتسمية الحريري تَسَبَّبتْ بسخط بري الذي لا يكنّ المودة لعون ولا لباسيل خصوصاً أن لا مبرر للتأجيل سوى حماية باسيل وإعطائه فرصة أسبوع نهائي ليحاول حفْظ مكان له في الحكومة المقبلة. وقد علمتْ «الراي» أن باسيل يصرّ على الاحتفاظ بوزارة الطاقة لعدم إدراكه أنه لا يوجد أحد بين السياسين والقادة المؤثرين سيسمحون له بأن ينجح في هذه الوزارة مهما حاول.
ولا يوجد أي سبب دستوري يجبر الحريري على تلبية رغبات باسيل خصوصاً أن باريس، تدخّلت لتعبّر عن استيائها من التأجيل وهي فرضت وبقوّة ألا يحصل أي تأخير بعد اليوم وأن موعد الخميس المقبل لتسمية الحريري أصبح «مقدّساً». وهكذا انكشف المستور أن «الثنائي الشيعي» ليس هو مَن يريد لنفسه وزراة المالية فقط، بل ان هناك أيضاً أطرافاً أخرى تريد حصتها. فأرضى الحريري الثنائي والدرزي والسني وتَرَكَ رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع وباسيل يرفضان المشاركة لُيظْهِرا أن الأكثرية المسيحية تُعَرْقِل الحكومةَ المقبلة «الإصلاحية والانقاذية».
ولكن هل هذا يعني أن الاتفاق بين التيار – حزب الله قد انتهى؟ من الواضح أن التحالف الذي وقّعه الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله مع رئيس التيار الوطني الحر الجنرال ميشال عون (الذي عُرف باتفاق مار مخايل) العام 2006 تغيّرت معالمه عند تغيير قائده الذي أصبح رئيساً للجمهورية وأعطى الراية لصهره باسيل.
فقد اعتبر «حزب الله» أن «الديْن» المستحقّ لعون قد أوفاه عندما أوصله – بعد سنتين ونصف السنة من تعطيل انتخاب الرئيس- إلى سدة الحُكْم. ومما لا شك فيه أن الخلافات تحصل دائماً داخل البيت الواحد، إلا أن تنظيم هذا الخلاف لم يحصل كما يجب للإبقاء على الوحدة السياسية. فالطرفان استفادا من بعضهما البعض وأظْهرا أنهما يستطيعان الانفصال منذ الانتخابات النيابية التي أراد باسيل خلالها مجابهة حليفه (حزب الله) في مناطق عدة، ما أعطى جعجع حجماً لم يكن يتوقعه على ظهْر حليفه التيار الذي كان «نقض العهد» مع رئيس «القوات».
ويَعْتقد باسيل أن «تَناغُمَهُ» مع إسرائيل بالقول إنه لا توجد خلافات أيديولوجية معها وأن التسويق «لمفاوضات مباشرة» مع إسرائيل، كما قال النائب زياد أسود، وإطلاق العميل عامر الفاخوري مسموحٌ، لأن رئيس التيار الحر «يحقّ له ما لا يحقّ لغيره».
ومما لا شك فيه أن التلويح بالعقوبات على باسيل وعشرات من حزبه قد أعطى نتيجته المرجوة أميركياً، بتطويعه رئيس «التيار الحر» ليتخذ قرارات لم يكن ليتخذها في الأوقات والمراحل العادية، في حين أن الحليفَ المسيحي الآخَر لـ «حزب الله» زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية الذي تعرّض عبر وزيره يوسف فنيانوس للعقوبات الأميركية، قال إنه لن يحيد عن ثوابته وقناعاته.
غير أن كل هذه الخلافات لا تعني الطلاق وسقوط اتفاق مار مخايل. في حين أن الاتفاق السني – الشيعي سيوجِد تَقارُباً – وليس توافقاً – مسيحياً – مسيحياً لن يؤثّر على تسمية الحريري ولا على عمل الحكومة المقبلة التي تنتظرها تحدياتٌ أكبر بكثير من أي تحالفات قديمة أو مستجدّة، إستراتيجية أو مَرْحلية.