كتب علي الأمين في “نداء الوطن”:
كان على غالبية اللبنانيين أن ينتظروا دخولهم المئوية الثانية من تأسيس لبنان الكبير، كي يتلمّسوا طريقاً محتملاً وواقعياً للتغيير نحو دولة مدنية منزوعة السلاح، تنبذ ثقافة الكراهية المُدمّرة والتخويف من المذهبية “الأفيونية”. لم يكن بالإمكان عقد الآمال، لولا الإنتفاضة “المجيدة” بحقّ، التي أطلقت شرارتها الأولى في مثل هذه الأيام، وأسست لواقع سياسي جديد، لا يُعيد، على تواضعه، عقارب ساعة الطغمة السياسية الحاكمة الى الوراء، بل على العكس، سرّعت في “دنوّ ساعتها”، ساعة سقوط القناع والمحاسبة ولو مع وقف التنفيذ.
الإنتفاضة ليست مشروعاً سياسياً بديلاً غبّ الطلب، لكي يحاكمها المتفرّجون على الأحداث، ويُصدرون بحقّها أحكاماً ظالمة، وليست مشروعاً حكوميأ ينتظر على ضفّة السلطة الضوء الأخضر من أركانها، كي تتقدّم لتحتلّ مقاعد السراي والوزارات والإدارات العامة، كما وليست فعلاً انتهازياً يتحيّن فرصة الإلتحاق بالمتسلّطين على الشعب والطوائف ومافيا المال والفساد والتهريب والنهب، ولا هي من صنف الذين تهتزّ فرائصهم من العقوبات، فيتراكضون نحو الحدود، في محاولة استرضاء الخارج في سبيل المحافظة على ما نهبوا من مال، وما انتهكوا من سيادة، وما يمارسون من أفعال تسلّط على المؤسّسات الدستورية والمجتمع والدولة على وجه العموم.
في الأيام القليلة الماضية، لم تغب صرخة الإحتجاج عن كلّ مناطق لبنان، من الشمال الى الجنوب والبقاع والجبل وبيروت. جدّد المنتفضون الحقيقة التي تعبّر عن قوة الإنتفاضة التي لم تهتزّ، الحقيقة التي تقول إنّ نبض الإنتفاضة هو نبض لبنان، ليس نبضاً طائفياً ولا فعلاً فئوياً، أو محاولة استجرار نفوذ دولي أو اقليمي. هي فعل عصّي على الإستحواذ والمصادرة والتجيير، لأنّها ببساطة، انتفاضة الناس الذين يحامون عن حقوقهم كشعب وعن الوطن كأبناء له، وعن الدولة كمعبّر عن إرادة الخلاص العام لكلّ المواطنين.
ليست الإنتفاضة فعل انقلاب على السلطة المفسدة والفاسدة، ولأنّها فعل تغيير عميق في الوعي والسلوك، فهي لا تخضع لأحكام الإنقلابات، ولا لمعايير التحالفات السياسية التقليدية تحت سقف منظومة الحكم ونظام المصالح الذي يديرها، انّها فعل تغيير في المنهج الذي طالما أعاد انتاج المنظومة الحاكمة عينها، ولو بأسماء ووجوه جديدة.
في كلّ الإنتفاضات التي شهدها التاريخ اللبناني الحديث، قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها، والتي دخلت الحكم مشاركة في السلطة، أو فشلت في الدخول من بداية الإستقلال وفي محطّات تاريخية بدأت مع نهاية عهد الرئيس بشارة الخوري الى ما سمّي ثورة عام 1958، الى انقلاب القوميين في عهد الرئيس فؤاد شهاب، الى مرحلة الحرب الأهلية مروراً بتوحيد البندقية المسيحية وانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية، مروراً بانتفاضة 6 شباط 1984، وصولاً الى حرب التحرير عام 1989وحرب الإلغاء وحروب الأخوة… والى العام 2005 وانتفاضة الإستقلال الثاني… كلّ هذه المحطّات لم تستطع أن تحدث تغييراً حقيقياً في منظومة السلطة، وإن كان لكلّ واحدة منها ما حقّقته ممّا يعتبره مؤيّدوها مكاسب حزبية أو طائفية، بما فيها من مهازل وكوارث ايضاً.
بهذا المعنى، يمكن ملاحظة ما لا يزال جوهر انتفاضة 17 تشرين 2019 الصلب، لأنّه بخلاف كلّ المحطات الآنفة، فإن الإنتفاضة المستمرة بالرغم من كلّ العثرات ومحاولات القمع والتشويه، فهي انتفاضة لبنانية بامتياز، تغييرية لأنهّا عصيّة بطبيعتها على التآلف مع منظومة السلطة، وهي لبنانية، لأنّ عصبيتها لا تقوم على الطائفة أو المذهب أو المنطقة أو الحزب، مدنيتها عصبيتها ولبنانيتها هويتها الصريحة، وبالرغم من كلّ النكسات والخيبات التي طالتها، فإنّها لم تقع يوماً في فخّ الفئوية أو في أمراض الإصطفاف السلطوي، الطائفي او الحزبي، لم تكن يوماً أسيرة إغراء المشاركة في السلطة، لأنّ بنيتها وطبيعة نشأتها لا يتآلفان مع منظومة السلطة القائمة وآليات عملها.
هنا تكمن قوة الإنتفاضة التي تخيف السلطة ومنظومة الحكم، لأنّها من صنف آخر، قد يبدو ضعيفاً وعرضة للإندثار لدى البعض، لكنّه في الواقع هو من صنف الذي يحفر في الوعي، لأنّ التغيير المنشود لا يتحقّق بغير هذا الحفر العميق، الذي يحصّن الإنتفاضة من موجات الطائفية والمذهبية التي طالما كانت وسيلة ناجعة لاستيعاب منظومة السلطة كلّ تطلعات التغيير وحراكها في الماضي القريب والبعيد.
الإنتفاضة تنتصر وتتقدّم طالما بقيت تنبض في الوقت نفسه، من صور الى عكّار وفي صيدا وجلّ الديب، الى الهرمل واقليم الخروب، وفي الشوف وطرابلس، كما تنبض في بيروت. كلّ عام والإنتفاضة بألف بخير!