اتخذ الرئيس ميشال عون «القرار الصعب» بتأجيل الاستشارات النيابية لمدة أسبوع، بعدما وجد أن الرئيس سعد الحريري توصل الى حسم التكليف والحصول على تأييد أكثرية نيابية من دون الحاجة الى أصوات نواب التيار الوطني الحر (وحتى من دون احتساب أصوات نواب القوات اللبنانية التي قررت عدم تسمية أحد). والمشكلة من وجهة نظر رئيس الجمهورية تكمن في أن مثل هذه الحكومة ستكون فاقدة لـ «الميثاقية» لأنها لا ترتكز الى تأييد أكبر قوتين مسيحيتين (بغض النظر عن الأسباب والمنطلقات المختلفة)، والمسألة ليست مسألة تكليف وإنما مسألة تأليف وما إذا كان الحريري قادرا على تشكيل حكومة جديدة أم سيتكرر معه ما حصل مع مصطفى أديب عندما حصل التكليف بأكثرية عالية وتعثر التأليف وتعذر، واضطر الرئيس المكلف الى الاعتذار. والرئيس عون لا يريد لـ «تجربة أديب» أن تتكرر، وهو يريد تفاهما مسبقا على الحكومة الجديدة، وهذا التفاهم يجب أن يشمل الجميع، ولا يكفي أن يكون مقتصرا على تفاهمات أبرمها الحريري مع نبيه بري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية والطاشناق، وتضمن له الحصول على أصوات 22 نائبا مسيحيا، وهذا رقم كاف بنظره لتأمين شرط الميثاقية.
عندما حصل اللقاء في قصر بعبدا لمرة واحدة حتى الآن، نصح عون الحريري بأن يجتمع الى «جبران»، وبنى عون نصيحته على حاجة الحريري الى فريق مسيحي يدعم ترشيحه، وحيث لا يمكن لمرشح أن يبلغ التكليف من دون تأييد التيار الوطني الحر أو القوات اللبنانية، وكان جواب الحريري «عندما كلفتم حسان دياب لم ينل من أصوات النواب السُنّة إلا أصوات اللقاء التشاوري، وأنا الآن تدعمني كتلة سليمان فرنجية التي تتمتع بـ «شرعية مسيحية» وعددها أكبر من اللقاء التشاوري». وكان جواب عون مخاطبا الحريري بأن تسمية دياب لم تحصل إلا بعد محاولات ومناشدات عديدة جرت معك لإقناعك بالترشح، ولكنك لم تتجاوب وأصررت على موقفك، فكان لابد من تكليف شخصية أخرى، مع أنك كنت المفضل.
أدرك الحريري بعد هذا اللقاء أن العقبة الأساسية، وربما الوحيدة في طريقه حاليا، هي عقبة جبران باسيل. ولكنه تجاهلها ومضى في اتجاه استشارات محسومة ومضمونة. لم يكن الحريري يتوقع التأجيل، لا بل كان يعتقد أن عون لا يمكنه أن يحتمل تبعات قرار كهذا ستكون له تأثيرات سلبية على علاقته مع إيمانويل ماكرون والمبادرة الفرنسية وتلقي عليه مسؤولية الوضع. وقرر الحريري التعاطي مع قرار التأجيل بعد صدوره كما لو أنه لم يكن ولن يغير شيئا في موقفه وخطته. ولذلك التزم الصمت السياسي المطبق ولم يطلق أي إشارة تدل على رغبته بالتفاهم مع باسيل أو حتى بلقاء الرئيس عون لمرة ثانية قبل الخميس المقبل.
عندما اعتذر مصطفى أديب، قرر الحريري وبتأثير من محيطه والمقربين منه ألا يسمي أحدا لرئاسة الحكومة، فإما يكون هو رئيسا للحكومة وحيث لا منافس ولا منازع له وهو المرشح الطبيعي كونه الأقوى سُنّيا، وإما يبقى «خارج اللعبة والحكم» لأنه ليس في صدد تسمية أو تفويض أو دعم أحد. وبعدما قرر رئيس الجمهورية تأجيل الاستشارات، قرر الحريري، وبتأثير من محيطه أيضا، المضي قدما في ترشيحه والتمسك به أكثر وعدم إخضاعه لأي مساومة. فإما أن تجري الاستشارات وتعلنه رئيسا مكلفا، وإما لا تجري وليتحمل عون المسؤولية المترتبة على ذلك.
لا يتصرف الحريري من خلفية أنه «المحشور والمحرج والمطالب بتفكيك اللغم الحكومي، وإنما يتصرف من خلفية أن باسيل هو الذي تسلق شجرة عالية وعلى الرئيس عون أن يضع له سلم النزول.. كما يتصرف الحريري على أساس أنه كسب معركة الحكومة وقد ضمن، ليس فقط أكثرية نيابية، وإنما أيضا، وهذا هو الأهم، تفاهما مع الثنائي الشيعي الذي أعطاه ما يريده في وزارة المال وتسمية الوزراء، وهذا ما يساعده على تحييد رئيس الجمهورية و«عزل مشكلة باسيل» في أضيق نطاق ممكن وإقصائه عن الحكومة الجديدة، على أن تنحصر التفاهمات الحكومية مع رئيس الجمهورية بما يكفي لإقفال الثغرة المسيحية، وبما يغنيه عن الحاجة الى باسيل وكتلته.
هنا يقع الحريري في خطأ حسابات سياسية. الأمر لا يتعلق فقط بموقف عون الذي «لن» يقبل بإقصاء التيار الوطني الحر دون غيره من الأحزاب والكتل النيابية وإسقاط «معادلة الحريري ـ باسيل» وعدم مراعاة المكون المسيحي الأساسي، ولن يخضع لشروط الحريري تحت ضغط الوقت الضيق والأزمات المتراكمة والاستقواء بالمبادرة الفرنسية.. الأمر يتعلق بموقف حزب الله. هذا الموقف مازال يتسم بالغموض وعدم كشف الأوراق النهائية مع الحريري وتجاهه، ومازال داعما للرئيس عون بكل قوة وثبات في الملف الحكومي.
عندما التقى وفد كتلة المستقبل برئاسة النائب بهية الحريري رئيس كتلة حزب الله النائب محمد رعد في إطار الجولة على رؤساء الكتل النيابية، لم تتبلغ منه أي موقف بشأن تسمية الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة، لا بل لمست موقفا مائلا الى عدم التسمية عندما عمد النائب رعد الى تذكيرها بأن حزب الله لم يسم مرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ولم يسمِّ إلا مرة واحدة (أولى حكومات عهد عون) الرئيس سعد الحريري. في المقابل، وجد رعد أن الحريري لا تحمل معها أي تصور حكومي واضح، وأن الزيارة شكلية بروتوكولية اقتصرت على تسليمه ورقتين تلخصان المبادرة الفرنسية، ليبلغها رعد أن هاتين الورقتين في حوزته وقد أعطى الموافقة عليهما في لقاء قصر الصنوبر.
لا يحسم حزب الله موقفه من تسمية الحريري إلا بعد اتضاح موقف عون وعلى أساسه، وموقف الحزب مازال هو هو: «لا حكومة من دون عون ولا موافقة على حكومة لا ترضي ميشال عون». وهذا الموقف يعكس استمرار العلاقة الراسخة بين الطرفين، والتي لم تؤثر فيها الاهتزازات والتباينات الأخيرة المتصلة بتشكيلة الوفد اللبناني المفاوض مع إسرائيل حول «ترسيم الحدود»، وبمقاربة العلاقة والاتصالات مع الأميركيين وهامش التحرك والمناورة في المسائل المتصلة بهم. والجديد الذي طرأ في الأيام الأخيرة كان على مستوى العلاقة بين حزب الله وباسيل.. فهذه العلاقة كانت بلغت في الأشهر والأسابيع الأخيرة أدنى مستوياتها بعدما راكم الحزب ملاحظات ومآخذ سلبية على أداء باسيل وسياساته، وفضَّل حصر علاقته واتصالاته برئيس الجمهورية.. وما حصل قبل أيام أن باسيل بادر الى تفعيل علاقته مع الحزب وبث الحرارة في خطوط الاتصالات معه ورفع مستواها، وأن حوارا سياسيا جديدا بدأ بين باسيل وموفدين اثنين من السيد حسن نصرالله أحدهما معاونه السياسي حسين الخليل.
مجمل هذه التطورات والاتصالات تفيد بأن استشارات وعملية التكليف حاصلة يوم الخميس المقبل وسيكون من الصعب رؤية تأجيل ثانية.. ولكن سيكون من الصعب أيضا رؤية حكومة في وقت قريب. لا بل من المتوقع، وفي حال لم يحصل لقاء ثان بين عون والحريري قبل الخميس وصدر التكليف الرئاسي «على مضض»، أن تنتقل المشكلة من مرحلة التكليف الى جبهة التأليف، وأن تكون الحكومة الجديدة عرضة لتجاذبات قوية. فإذا كان عون مضطرا لتمرير التكليف، فإنه لن يفعل الشيء نفسه في تمرير حكومة يفترض أنها حكومة العهد الأخيرة، ولن يسلم بسهولة ورقة القوة الوحيدة في يده وهي ورقة التوقيع على الحكومة الجديدة.. وبالنتيجة، فإن عملية تشكيل الحكومة ستطول وتمتد لأسابيع. وما هو مؤكد أننا لن نرى حكومة جديدة قبل الانتخابات الأميركية.