IMLebanon

“الإشتراكي”: هذا هو هدف محاولة اجتزاء كلام للشهيد كمال جنبلاط

أصدرت مفوضية الإعلام في الحزب التقدمي الإشتراكي بيانا ردا على “محاولة اجتزاء كلام الشهيد كمال جنبلاط عن الفيدرالية”، وقالت: “لسنا بوارد إخفاء السرور لرؤيتنا قناة “أو.تي. في” التلفزيونية تكرر عرض مقطع من ندوة تاريخية للمعلم الشهيد كمال جنبلاط في بداية نشراتها الإخبارية الرئيسية. فالعقيدة السياسية التي نشأت عليها هذه المحطة الإعلامية لم تكن يوما من المروجين او المحبذين لأفكار كمال جنبلاط، بل قامت من عمق النظريات المعاكسة، ولذلك فإن استشهادها بكلامه في هذا الزمان -وإن كان هدفها ليس بريئا بل هو لمحاولة إظهار صورة مغلوطة تماما بأنه كان يؤيد الفيدرالية بمعناها التقسيمي في لبنان- الا أن ذلك يبعث فينا إصرارا أكثر على صوابية نهج وفكر هذا الرجل الكبير، الذي يضطر حتى الإعلام الخصم للاستعانة به لإثبات وجهة نظر ما.

هذا في الشكل، أما في المضمون، فإن المحطة اجتزأت عن سابق تصور وتصميم فقرة من كلام قاله كمال جنبلاط عام 1956 في محاضرة بعنوان “لبنان في واقعه ومرتجاه” من سلسلة محاضرات ألقاها المفكر الكبير في الندوة اللبنانية التي نظمها الإعلامي الراحل ميشال أسمر. وفي هذه المحاضرة، التي ندعو الجميع دون استثناء لقراءتها بالكامل وسبر أغوارها، يصف كمال جنبلاط بجمال أدبي، وبلاغة سياسية، وعلم واسع، واسترسال تاريخي، وتحليل فلسفي وروحي واجتماعي، وتفنيد جغرافي، وتبويب اقتصادي شامل، واقع لبنان بما هو فيه من اجتماع لمشارب وعائلات ثقافية ودينية وإجتماعية وإقتصادية، وبما هو عليه من نظام سياسي منذ نشأة لبنان الفكرة، ويرسم بدقة لامتناهية ما يرتجيه للبنانيين حتى تاريخنا الحاضر.

كمال جنبلاط في معرض هذا الشرح المتكامل، تحدث عن الواقع اللبناني كما هو، إذ قال إن “لبنان بوصفه يجمع إلى حد ما بين التراث المسيحي الغربي والتراث العربي الإسلامي، قد يكون أفضل آلة لقياس واقع الحضارة وأزمات التقدم والحضارة في الشرق العربي”، مؤكدا أن “لبنان كيان طبيعي جغرافي حقيقي”، واضعا “التقسيم الإداري” كأحد “أسباب الاستقرار والانضباط الإداري والسياسي”، دون أن يتحدث بتاتا عن اي نوع آخر من أنواع التقسيم الجغرافي او الطائفي او المالي، والتي عندما طرحها الآخرون لم يعارضها كمال جنبلاط فحسب، بل قاتل بوجهها.

صحيح أن كمال جنبلاط في معرض وصفه للواقع أيضا، قال إن لبنان “يشكل اتحادا فدراليا واقعيا للقرى والأقاليم والتقاطيع الجغرافية الطبيعية”، وما بين جبل لبنان والمدن الساحلية، وما بين المقيمين والمغتربين، وما بين العائلات الروحية، لكنه أكمل ليقول في النص نفسه إن “لبنان وجد فعلا ليكون بلد اللامركزية”. وإذ يستعمل الوصف المستخدم من قبل البعض (بلد “الكنتونات”) فإنه يضع الكلمة بين مزدوجين للاشارة الى اقتباسها، ويضيف ليؤكد أنه “لم ينجح حكم في لبنان سوى حكم اللامركزية”، ثم يشرح قصده باللامركزية بقوله: “إنما الديموقراطية السياسية الناجحة في النهاية لا تقوم إلا على مرتكز قوي ومتطور من الديموقراطية البلدية المحلية”، أي أنه كان حاسما في الإشارة الى اللامركزية الادارية والبلدية المحلية. وهذا ما يعود لتوصيفه بشكل أدق في مكان آخر من المحاضرة حينما يقول إن لبنان “بالرغم من التناقضات والمفاوضات والتعاكسات والتنوعات التي يتضمنها ويحتضنها، كان ولا يزال يشكل وحدة للعيش واحدة، وحدة للحياة مشتركة… وقد يكون في ذلك السر والسبب الذي يجعل التناقضات والمفارقات والتنوعات والاختلافات والأزمات كافة تجد في النهاية لها حالا واقعيا منسجما وتسوية معقولة، وتأليفا يحافظ فيه على طرفي النقيض وقطبي التعاكس في عملية تطور الحياة الحقيقية التي تجمع على الدوام بين التناقضات ثم تهدمها لتبني تناقضا آخر أكثر انسجاما، ولا تذهب أبدا من نقيض، كما يتصور ذلك الجاهلون لشرائع سير التاريخ ودفق الحياة”.

ويتابع كمال جنبلاط موضحا أكثر: “فوحدة العيش، وحدة الاقتصاد، وحدة الحياة، وحدة الاختلاط والاشتراك هي على الدوام الغالبة، المنتصرة …”.

وفي معرض ما يرتجيه من اللبنانيين، يقول كمال جنبلاط عام 1956: “قد يدركون يوما أكثر مما يدركوه الآن، أنهم أولا أبناء هذه الوحدة الحياتية، وحدة الاقتصاد والاجتماع وتشابك البيئة، قبل أن يكونوا نصارى وسنة ودروزا وشيعة وسواها من المذاهب. ويأتي الدين فيما بعد وفق هذا الاشتراك وهذا التشابك في وحدة الحياة… فإذا اختلف الناس أحيانا على أهداف الآخرة، فلا يستطيعون في النهاية إلا أن يتفقوا، لأن وحدة العيش التي تجمعهم، والتي لا تميز بين تاجر نصراني ومستهلك مسلم، هي أقوى بكثير من أن تقبل بهذا التفريق”.

أما عندما تحدث كمال جنبلاط عن “روح الفيدرالية” التي قال إنها “تؤمن الاستقرار الداخلي وترضي الأقليات المذهبية والأثنية، وتؤلف وتربط بين تنوع أقسام الوطن – هذه الأقليات المذهبية والأثنية التي يجب أن تحصل على الضمانات الكيانية والبقائية البدائية الأولى، وإلا واجهت الدولة مشاكل وأزمات لا تعد ولا تحصى ليس أقلها ضعف كيان الوطن وعدم الاستقرار الدائم”، فهو كان يتحدث عن بعض الدول العربية التي هو نفسه رفض الدخول في سجنها الكبير، وفي ما وصفه “بمجتمع العبيد”، ونصحها بالاقتداء بالتنوع اللبناني “الفسيفسائي”، وبوقف سياسة “قطع الرؤوس”.

وقد ختم كمال جنبلاط بالتأكيد على أن “لبنان وجد لكي يكون بلد العقل”، وأن “العقبة والمانع هو نقص، أو انعدام النضج السياسي، وهو نقص، أو انعدام، النضج الحضاري، وهو أيضا نقص، أو انعدام، الروح الديمقراطية الصحيحة، وهو هذه الانعزالية في التفكير، الانعزالية في الاقتصاد، الانعزالية في الوطنية الضيقة إنسانيا وعربيا”، مشيرا الى ان لبنان “بحاجة إلى تنظيم ولامركزية واسعة في الإدارة العامة ومراقبة وتفتيش شديدين في آن واحد”، وإلى ان “هذه الروح من الاشتراك … يجب أن تتقوى في لبنان، لعل فيها السبيل للقضاء على التعصب الطائفي، وعلى روح التفرقة. وهذه الروح هي في الواقع أفضل ما في لبنان”.

فحبذا لو يقتدي منظرو اليوم واهمو الأمس والغد، بكمال جنبلاط بكليته، وليكن بيننا نقاش راق عقلاني نغوص فيه في فكر المعلم الشهيد الذي لبنان اليوم في أمس الحاجة اليه للخروج من مستنقعات الاستئثار والاستكبار، ووحول الأزمات التي تتظهر معها من جديد روح انعزالية انتحارية تتلبس أشكالا مختلفة، لكنها من عهود قديمة بالية، وقد وصفها كمال جنبلاط ب”الهوس الجاهل”. فحذار ثم حذار من هذا “الهوس الجاهل”.