Site icon IMLebanon

هل كان بقدرة عون القول والإفصاح أكثر؟

كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:

سقط كثيرٌ من الرهانات التي عُقدت على رسالة رئيس الجمهورية ميشال عون امس، بعد التوقعات التي بُنيت على ما يريد قوله عشية الإستشارات النيابية الملزمة، التي لا يتمنى ومحيطه نتائجها المتوقعة لأكثر من سبب. فقد رغب البعض ان يقول أكثر مما قاله، وان يكون افصح مما كان. وعليه، ما الذي حال دون أن يرضي الرئيس رغبات البعض بسقف اعلى؟

قلائل من اعتقدوا انّ عون سيعلن استقالته او سيرجئ الإستشارات النيابية الملزمة مرة اخرى، فهم بأكثريتهم قد عبّروا إما عن رغبة دفينة في قلوبهم وعقولهم، او عن جهل بعقلية الرجل والظروف التي تمرّ فيها البلاد. ولكنها ليست مستغربة في ظلّ وجود هذه العلّة المتفشية في اذهان البعض، وخصوصاً اولئك الذين اعتقدوا انفسهم أنّهم قد اصبحوا نجوماً، وانّ في استطاعتهم خوض السباق مع المنجّمين في إثارة الرإي العام أو توقّع ما ليس في الحسبان.

قبل 36 ساعة من موعدها امس، قرّر عون توجيه رسالته الى اللبنانيين بطريقة غير معروفة. فالاستشارات النيابية المقرّرة اليوم لتكليف من سيشكّل الحكومة العتيدة، لا تستأهل رسالة من هذا النوع، ولا بمثل هذه المعايير التي ارادها. وخصوصاً انّه يستعد لتوجيه رسالة دورية سنوية عشية 21 من الشهر الجاري في مناسبة انتهاء السنة الرابعة من ولايته الرئاسية، لإجراء جردة لا بدّ منها عن فترة استهلكت ثلثي سنوات العهد ورؤيته للثلث المتبقي منه. وهو ما دفع الى قراءتها بعيون أخرى في التوقيت والشكل والمضمون.

وبعد تجاوز ما قال به التوقيت عشية تكليف الرئيس سعد الحريري، بطريقة توحي بفرض الخطوة الدستورية لنتائجها أمراً واقعاً على جميع من لا يريدها ولا يتمناها ان يقبل بها لأسباب مختلفة، وعند تصنيفها، يبدو انّ بعضها لا يستأهل التوقف عنده، ومنها تلك التي تترجم خلافاً بات شخصياً يقارب الحقد في جوانب منه، ولا تلك التي امعنت في قراءة سياسية أو دستورية خاطئة لمساواة موقع رئيس الحكومة الميثاقي، بتركيبة وتوزيع رؤساء السلطات في لبنان، المبني على اسس طائفية تخرجه على الفور من دائرة التصنيف الذي يطاول الوزراء. فرئيس الحكومة هو في موقع متقدّم على بقية نظرائه الوزراء في الحكومة، من دون اي نقاش دستوري او سياسي او مذهبي. وعلى من يخالف هذه النظرية أن يكون مقتنعاً بأنّه لا يمكن في أي شكل القول انّ الدستور الجديد الذي ولد من رحم «اتفاق الطائف»، قد اعطى ما شُطب من صلاحيات رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة منفرداً. فالدستور قال – بصراحة لا لبس فيها – انه اودع تلك الصلاحيات لدى مجلس الوزراء مجتمعاً. وما كان على من لا يرضيه هذا الواقع، إلاّ تجنّب الدخول في أي تسويات سياسية تضع الدستور على الرف، والسعي الى البتّ بسلسلة من القوانين والأنظمة التي تحدث عنها «إتفاق الطائف» قبل ثلاثين عاماً ولم ترَ النور بعد. ومنها، وضع النظام الداخلي لمجلس الوزراء الذي يحدّد المسؤوليات وينهي جدلاً عميقاً عانى منه لبنان في محطات مختلفة. كما بالنسبة الى تحديث القوانين والتشريعات التي تغني عن التفسيرات المتناقضة لكثير من المواد الدستورية التي برزت مساوئها في اكثر من مناسبة.

اما في الشكل والمضمون، فقد عبّر رئيس الجمهورية في رسالته امس، عما يختلج في صدره من معطيات، كان لا بدّ من أن يكشف عنها في العلن على قاعدة «اللهم اني بلغت»، عشية الاستحقاق الدستوري الذي سيعيد الحريري الى السرايا الحكومية، في ظلّ خلاف مستحكّم مع اهل بيته. فرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل وبعض اطراف تكتل «لبنان القوي»، لم ولن يستسيغوا ما ستؤدي اليه استشارات اليوم، وتحديداً عند تسمية الحريري لتشكيل الحكومة العتيدة، بمعزل عن عملية التأليف التي قد تفتح آفاقا جديدة، قد تفرض ايقاعاً جديداُ من المفاوضات ما بين المتخاصمين، والتي كانت مستبعدة قبل محطة اليوم.

وان دخل المعنيون بهذه القراءة في التفاصيل، فهم يعتقدون انّ رئيس الجمهورية قال ما قاله امس، من موقع الرافض لأن يكون متفرجاً. فبعد فترة قريبة على مصادرة صلاحياته في اعلان «اتفاق الإطار» حول مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، استنسخ الحريري الآلية التي كان يعتمدها في استمزاج آراء الكتل النيابية قبل موعد الدعوة الى الاستشارات. وان اتخذت شكلاً مغايراً، فقد ابتعد الحريري عن مبدأ تسمية الرئيس المكلّف، واضعاً نفسه مسبقاً كـ «مرشح طبيعي» لمهمة التكليف، في موقع اعلى ممن يجرون العملية الاستشارية، بالتركيز على مهمة الحكومة ومصير المبادرة الفرنسية التي حكمت آلية التشكيل منذ اطلاقها في أول ايلول الماضي كمخرج، لا «نسخة ثانية» منه لتجاوز الأزمة الطاحنة المتعددة الوجوه التي يعيشها اللبنانيون.

ويضيف اصحاب هذه القراءة، ان ما عبّرت عنه رسالة رئيس الجمهورية امس من انزعاج، عكسه الانحياز المسبق لبعض حلفائه الى جانب الحريري. ومنهم من هم شركاء في كتلة «لبنان القوي»، وآخرون من حلفاء الحلفاء، في ما بقي جزء آخر منهم كـ «حزب الله» معتصماً بالصمت، من دون ان يُظهر اي موقف ثابت كان يريده أكثر وضوحاً. وما زاد في الطين بلّة، انّ عدد الوسطاء الذين يلعبون ادوارهم في مثل هذه الحالات قد تمنّعوا واحتجبوا عن القيام بأي مبادرة، فيما فشل آخرون – يُعتقد انّهم من الدرجة الثالثة وفق تصنيف الوسطاء – في فتح اي كوة في الجدار السميك الذي بُني منذ فترة بين الحريري وباسيل. فبقي طوال هذه الفترة مراقباً لسلسلة التحركات والمواقف، من دون ان يؤثر فيها.

وعليه، وبناءً على كل ما تقدّم، طُرح السؤال، هل كان في امكان رئيس الجمهورية ان يقول اكثر مما قاله؟ او ان يكون اقسى واوضح في ما وجّهه من رسائل في اكثر من اتجاه؟ وان جاء جواب العارفين، ففيه حديث عن تحديد وتوزيع للمسؤوليات، لما آلت اليه التطورات بما يمنعه من ان يكون اوضح واقسى. فمنطق التسويات السياسية، الذي تجاوز ما يقول به الكتاب والخروج على ما هو مألوف، لا يدوم كثيراً، والعواقب عند انهيارها ستكون ادهى وأخطر، ولائحة الأخطاء طويلة ومعها الارتكابات وسوء استخدام السلطة اكثر مما يتسع له مقال. لكن جواب صديق عتيق للعهد يلخّص الجواب فيقول: «ليس هناك من يحاسبك على النيات في السياسة عندما تعيش فوق الرمال اللبنانية المتحركة. وان لم تستطع تنفيذ ما تعدّ به فلا تكبّر الحجر. ولو وفقت في اختيار فريق العمل وترصد النتائج المترتبة على اي قرار مهما كان حجمه، لما تراكمت الأخطاء التي لا تؤدي الى مثل ما نحن عليه اليوم».