كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
عندما يقرّر الفريق، الذي قَرّر الرئيس المكلّف سعد الحريري التعاون معه في تأليف الحكومة العتيدة، أن يحاصره في التكليف قبل التأليف، فعَن أيّ تأليف يمكن الحديث بعد اليوم؟
عندما اتخذ الرئيس المكلف سعد الحريري قراره بأن يكون رئيساً مكلّفاً، إتخذ هذا القرار على قاعدة انّ الأكثرية الحالية، وتحديداً العهد والثنائي الشيعي، ستكون في موقع المرحِّب لهذه الخطوة، لا سيما انّ هذه الأكثرية وصلت إلى الحائط المسدود بمشروعها السياسي في ظل الانهيار المالي وغياب البدائل لديها حكوميّاً عن الحريري بفِعل إدراكها ان ّاي حكومة من لون واحد، على غرار الحكومة المستقيلة، سيكون مكتوب لها الفشل منذ لحظة انطلاقتها.
وأكثر ما أثار استغراب البعض هو انّ العهد الذي لم يعد يملك ترف البدائل والخيارات، خصوصاً بعد التجربة الحكومية الأخيرة، وقفَ سداً منيعاً أمام تكليف الحريري، محاولاً إحراجه لإخراجه من خلال 3 محطات أساسية: تأجيل الاستشارات بغية جَرّه إلى الاعتذار، كلمة الرئيس ميشال عون عشيّة الاستشارات في رسالة فحواها انّ نهج الحريرية السياسية يتحمّل تَبعات الأزمة المالية، وبالتالي جَرّه إلى اشتباك لم يحصل، ومحاصرته بثقة هزيلة في التكليف من أجل ان يعتذر.
وأمام فشل استدراج الحريري إلى مواجهة ودفعه إلى الاعتذار، وأمام صعوبة ان يؤجّل رئيس الجمهورية الاستشارات مجدداً في غياب الأسباب الموجبة لهذا التأجيل، سينقل عون المواجهة مع الحريري إلى التأليف الذي لن يمرّ بسهولة ولا بسلاسة، وسيكون أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا عدم القدرة على التشكيل مهما طال الزمن واضطراره إلى الاعتذار لاحقاً، وإمّا التأليف من خلال التسليم بشروط الأكثرية، والعهد تحديداً، الذي لن يوقِّع أي تشكيلة يرفضها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل.
ويصطدم الرئيس الحريري بعقبتين أساسيتين: توقيع رئيس الجمهورية، وموقف «حزب الله» الداعم للعهد، والذي لن يضغط لتأليف حكومة على حساب العهد أو الرجل القوي داخله، باسيل. وبالتالي، سيكون الحريري مضطراً إلى التجاوب مع شروط باسيل بتسمية الوزراء والحقائب، وما لم يكن مُعلناً في حكومة الرئيس حسان دياب، سيكون معلناً هذه المرة في سياق المواجهة بين الطرفين وتأكيد باسيل المؤكد بأنه نجح في انتزاع ما أراده، وهو ينطلق أساساً من قاعدة مزدوجة: ان ّالحريري غير اختصاصي، وانّ مبدأ المساواة يجب ان يطبّق على الجميع، بمعنى انّ الرئيس المكلف لا يستطيع ان يسلِّم بشروط الثنائي الشيعي وألّا يسلِّم، في المقابل، بشروط تكتل العهد.
ومعلوم انّ الثنائي الشيعي في غير وارد التراجع عن شرطه في تسمية الوزراء الشيعة واختيار الحقائب، كما لن يكون باسيل في وارد التراجع عن هذا الطرح أيضاً بتسمية معظم الوزراء المسيحيين، فيما الحصة المتبقية تؤول إلى «المردة» و»الطاشناق». ما يعني انّ الحريري لن يتمكّن من تجاوز عتبة التأليف سوى في حال أخذ في الاعتبار بشروط الأكثرية في التوزير والحقائب، وايّ حكومة من هذا القبيل ستكون نسخة مكررة عن الحكومات التي سبقتها والتي فشلت في تحقيق الإصلاحات المطلوبة، فيما السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ستنجح حكومة من الطبيعة نفسها حيث فشلت الحكومات التي سبقتها؟
وليس مهماً ان يكون الاختصاصي غير حزبي، إنما المهم من يسمّيه ومرجعيته السياسية. وفي حال أراد الحريري ان يؤلِّف الحكومة سريعاً، فما عليه سوى العودة إلى قواعد التأليف المعهودة، فتكون حكومة محاصصة والفريق الوحيد خارجها هو «القوات اللبنانية» الذي اتخذ قرار رفض التعاون مع الفريق الحاكم لانتفاء فرَص الإنقاذ معه.
مُلفت جداً ما قاله الرئيس نبيه بري عقب خروجه من اللقاء الذي جمعه بالرئيسين عون والحريري: «الجَو تفاؤلي في المستقبل بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل»، وبمعنى آخر انّ هناك سعياً وجهداً من أجل أن تعود العلاقة بين التيارين إلى ما كانت عليه منذ مطلع العهد وحتى استقالة الحريري، ما يعني انّ الهدف من العوائق التي يضعها العهد في مواجهة الرئيس المكلف هو تَخييره بين النسخة التي كان عليها في حكومتي العهد الأولى والثانية، وبين عدم التأليف، وما عليه سوى ان يختار بين الفراغ المفتوح، وبين تشكيل حكومة بشروط العهد وقوى الأكثرية، هذا الفراغ الذي سيشكل في لحظة من اللحظات الدافع للتأليف بحجة ان الحكومة مهما كان شكلها تبقى أفضل من الفراغ.
ولا يوجد عملياً ما يبرّر وقوف العهد في مواجهة الحريري، خاصة انه لا يملك خيارات أخرى، ولكنه يريد عن طريق ربط النزاع معه ان يضمن تموضعه الحكومي، واستطراداً الوطني، إلى جانبه في ثلاثة عنوانين أساسية:
أولاً، التوافق داخل الحكومة وخارجها حول الملفات الأساسية وجدول الأعمال، فلا تكون الرئاسة الثالثة منصّة لاستهداف الرئاسة الأولى، واستطراداً «التيار الوطني الحر». لأنه خلاف ذلك ستكون منقسمة على ذاتها ومشلولة ومعطّلة، الأمر الذي لا يناسب العهد الذي يريد ان يبدِّل الصورة الانهيارية التي التصقت به.
ثانياً، التوافق في مقاربة العلاقة مع الخارج بدءاً من صندوق النقد، مروراً بمفاوضات الترسيم، وصولاً إلى العلاقة مع المجتمعين الدولي والعربي، وذلك لجهة أن يكون هناك سياسة خارجية واحدة، لا سياسة برأسين في مرحلة تحولات دقيقة ومفصلية وقد تكون تاريخية، وهذا أحد مطالب «حزب الله» وشروطه
ثالثاً، التوافق في مقاربة مرحلة ما بعد نهاية ولاية الرئيس عون، فلا يكون الحريري رأس حربة في قيادة معركة الانتخابات الرئاسية ضد تَوَجّه العهد ونظرته لهذه المعركة بالتفاهم مع حليفه «حزب الله».
ولا يوجد في المقابل ما يجعل الحريري بعيداً عن إحياء الزواج الماروني مع العه،د والذي دام لـ3 سنوات، وخروجه من هذا الزواج كان بسبب الثورة التي دفعته إلى الاستقالة من دون تنسيق خطوته مع رئيس الجمهورية، فيما يعود اليوم رئيساً مكلفاً متكئاً على تراجع هذه الثورة ومتعاوناً مع القوى السياسية نفسها على قاعدة business as usual.
لكنّ النيات الإيجابية المتبادلة لا تكفي، ولذلك سيسعى كل فريق إلى تحصين حضوره الحكومي بما يضمن دوره ونفوذه في مرحلة مفصلية، إن لناحية ما تخبئه الإدارة الأميركية بعد انتخاباتها في ظل الحديث عن توجهها إلى إقفال الملف النزاعي في الشرق الأوسط، أو لجهة الحسابات الرئاسية لمختلف القوى والعهد في الطليعة مع حكومة ربما تكون آخر حكومات العهد.
ومن الواضح انّ رغبة الحريري في التكليف ترتبط بطبيعة المرحلة المقبلة وان يكون لاعباً داخلها، وقد التقطَ فرصة دعوة رئيس الجمهورية إلى الاستشارات التي لم يرحّلها عون هذه المرة تحت عنوان التشاور قبل التكليف، من أجل يضمن التكليف في جيبه بمعزل عن نتيجة الانتخابات الأميركية التي قد تدفع محور 8 آذار، في حال فشل ترامب وانتخاب بايدن، إلى التشدد في شروطها.
فأيّ حكومة ستَتشكّل في ظل حسابات العهد المزدوجة: تجميل الصورة ومرحلة ما بعد انتهاء الولاية؟ وأي حكومة ستتشكل في ظل توجُّس «حزب الله» من مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية والمشروع المعدّ للمنطقة؟ وأي حكومة ستتشكّل وتكون قادرة على تحقيق الإصلاحات للحصول على المساعدات مع الفريق السياسي نفسه الرافض للإصلاح والذي أوصَلَ البلد إلى المأزق القائم؟ وأي حكومة ستتشكّل في ظل انطلاقة ساخنة ومتوترة بين الرئاستين الأولى والثالثة؟ وأي معالجة للأزمة ستتحقق على قاعدة انقسامية لا وفاقية، فيما الأزمة القائمة تتطلب أوسع تفاهم وطني على سبل الخروج منها؟ وهل كان الحريري مضطراً إلى مغامرة من هذا النوع فُرَص النجاح فيها ضئيلة جداً مقارنة مع احتمالات الفشل، أم انه يعتقد أنّ عودته إلى الضوء مهما كان ثمنها تبقى أفضل من بقائه خارج أسوار السرايا؟ فهل حسم الحريري موقفه بانه لم يعد يريد ان يكون في موقع صانع الرؤساء ويودّ العودة إلى رئاسة الحكومة؟ وهل فوّت في تكليفه فرصة إنقاذ جدية على البلد من خلال رفض التسوية مع الفريق الآخر إلّا بشروط البلد؟
ولعلّ القاسم المشترك بين القوى السياسية هذه المرة هو شراء الوقت بانتظار ان تتّضِح معالم المرحلة، مع فارق انّ الحريري أراد ان يكون في موقع المسؤولية الذي يجعله عند أي تحريك أميركي للملف اللبناني داخل السرايا الحكومية.