كتبت ميسم رزق في “الاخبار”:
لم يكَد مرسوم تكليف الرئيس سعد الحريري يصدر حتى برزت مؤشّرات التهدئة. لكل طرف حسابات تدفعه إلى إزالة العقبات وملاقاة الطرف الآخر، فهل تولد حكومة «الأضداد الاضطراريّة» سريعاً؟
تدخُل البلاد نهاية العام الجاري «المنطقة الخطِرة». التدافُع على أشدّه في الطريق إلى التسوية أو الانفجار. هنا، في بيروت، ثمة من يرى ميلاً داخلياً إلى التهدئة، وخصوصاً مع دخول الإقليم مدار خفض التوتّر. اليمن، هدنة غير مُعلنة في مأرِب تسبقها أكبر عملية لتبادل الأسرى بين طرفَي النزاع منذ بدء الصراع، وما بينهما وصول السفير الإيراني الجديد حسن ايرلو الى صنعاء. العراق، تهدئة مشروطة للهجمات ضد القوات الأميركية. سوريا، انسحاب تركي من نقاط عسكرية في حماة، وزيارة لمسؤول أميركي بهدف التوصّل الى «صفقة» للإفراج عن الصحافي الأميركي أوستين تايس. يتحقق ذلك، فيما كان لبنان يُعلن عن انطلاق التفاوض غير المباشر مع العدوّ الإسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية. وفي المفكرة اللبنانية، تحمِل الأسابيع والأشهر المقبلة استحقاقات صعبة تبدأ بالانتخابات الأميركية، مروراً بأخرى في سوريا، وصولاً إلى قطار التطبيع العربي – الإسرائيلي. كلها تستدرِج الى علامات استفهام ليس أقلها السؤال عن مصير الحكومة التي يُفترض أن يُؤلّفها الرئيس المُكلف سعد الحريري، كما برنامجها الإصلاحي ومفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي وتعاملها مع متغيرات المنطقة والعالم. وفيما لا يُمكن الجزم حتى الآن بمدى ارتباط ولادتها بالمسار التهدوي، لكنه لا شك سيكون عاملاً مساعداً، وإن كان غير ثابت. فوسط هذا المناخ، يأتي خبر عن ضربة إسرائيلية في جنوب سوريا، وطائرة مسيّرة يُطلقها الحوثيون باتجاه السعودية، وتستمر الولايات المتحدة الأميركية في استخدام سلاح العقوبات، آخرها على السفير الإيراني في العراق.
الثابِت حتى الآن، أن لا حكومة في لبنان قبل الانتخابات الأميركية. غير أنّ عدداً من الإشارات التي تلت تكليف الحريري، توحي بأن العراك السياسي بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس تكتل «لبنان القوي» النائب جبران باسيل، سيكون مُدوزناً في مرحلة التأليف، على عكس ما أوحت به مرحلة ما قبل التكليف. فلم يكد مرسوم تكليف الحريري يصدر حتّى خفتَ سقف العِراك. بدايةً، أكد رئيس مجلس النواب نبيه برّي أن الأجواء تفاؤلية لناحية تأليف الحكومة. ثم فاجأ باسيل الجميع بمشاركته في الاستشارات النيابية ولقائه الحريري، علماً بأنه أعلن في الاجتماع الأخير للتكتل أنه لن يفعل. حتى التصاريح التي أدلى بها الأطراف، تظهر أن لعبة الشروط والشروط المُضادة قابلة للتعديل في قواعدها. هل لذلك علاقة بما يحصل في المنطقة؟ أم أنه يتّصِل باعتبارات القوى السياسية الذاتية؟
لا يُمكِن إغفال عامِل أساسي داخلي جامع بين هذه القوى يدفعها إلى تدوير الزوايا في ما يتعلق بالتأليف. أولاها، أن أوضاع البلاد المالية والاقتصادية والمعيشية والأمنية لم تُعد تحتمِل غياب حكومة فعّالة. فضلاً عن المبادرة الفرنسية التي توفّر، باعتراف الجميع، «مسكّنات» تبعد خطر الانهيار الشامل، قد تكون السبيل الوحيد إلى الإنقاذ. لكن ظهور رغبة مفاجئة بتسهيل ولادة الحكومة يتعلّق أيضاً بحسابات لدى كل طرف، من شأنها أن تدفعه الى إزالة العقبات وملاقاة الطرف الآخر، يُمكن اختصارها وفقَ الآتي:
– بالنسبة إلى حزب الله، يبقى الاستقرار في البلد على رأس لائحة الأهداف في الداخِل. فالفوضى والانهيار يعنيان تكبّده كلفة كبيرة، ولا سيما أن أمينه العام السيد حسن نصر الله تعهّد بعدم السماح بتجويع لبنان. ففي مرحلة كهذه، سيكون الحزب أمام مسؤولية كبيرة تتعلق ببيئته، ولذا إن كانَ الخيار هو التسوية لضمان استقرار يحمي جميع اللبنانيين ويوزّع المسؤولية على الجميع، فلا مانع به. يعلَم الحزب أن رئيساً كحسان دياب وحكومته لن يبدّلا شيئاً في واقِع الأمور، وأن دولاراً واحداً من المساعدات لن يدخُل الى البلاد، لذا يبقى الحريري خياراً أقل سوءاً، وإن كانت فرصته غير مضمونة، لكنها تبقى فرصة.
– رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يُريد إنقاذ ما تبقّى من عهده. ضياع أشهر عديدة على تأليف حكومة، يعني هدراً للوقت. أن ينتهي عهده بحكومة «أضداد اضطرارية»، أفضل من أن يُختم بـ«دمار شامِل» على كل المستويات.
– بعدَ فشل عدد من رجال الأعمال – الأصدقاء المشتركين بين الحريري وباسيل في لمّ شملهما، تراجع الأخير خطوة. لم يكُن تراجعاً ينمّ عن تنازل بقدر ما هو إدراك للمصلحة. وصلت أخيراً إلى مسامع باسيل نصيحة مفادها أنه «إذا كانَ الحريري يدفعك إلى الخروج من الحكومة فلا تلاقِه في منتصف الطريق، بل ابق فيها ولاعبه من الداخل، وهناك من سيساعدك»، كما أن «ما تريده قد تحصل عليه داخل مجلس الوزراء، لكن الأكيد أنك لن تحصل عليه وأنت في خارجه». سُئل باسيل عمّا إذا كان يريد أن يكون في موقع المعارضة، وأٌجيب عن السؤال نفسه بأن المعارضة ستظهر معارضة للعهد وليس للحكومة، فهل المطلوب مقاطعة العهد؟ ناهيك عن أن عون لا يُمكن أن يدير معركة وحده باستخدام توقيعه وحسب، فهناك الكثير من الملفات داخِل مجلس النواب، وعون بحاجة الى من يعاونه في هذا الملعب. أما بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية التي ينطلق منها باسيل في كل حساباته، فلا «تضمنها الخصومات الشخصية والدائمة»!
– كان الحريري بالنسبة الى الرئيس برّي ولا يزال الشريك الوحيد المقبول داخل أي حكومة. يأتي دياب ويذهب، ثم يأتي غيره، يبقى رئيس مجلس النواب مقتنعاً بأن الإدارة مع الأصيل أبقى من الوكيل. وانطلاقاً من تمسكه بالمبادرة الفرنسية كفرصة أخيرة للإنقاذ، فمن الضروري بالنسبة إليه تذليل كل العقد أمام التأليف.
– أما الحريري فتعني له العودة إلى الرئاسة كنفخ الروح فيه. لا حياة سياسية للحريري خارج السرايا. يريد رئيس تيار «المستقبل» الكرسي لأسباب تتعلق أولاً بطائفته وجمهوره، حيث تتيح له هذه العودة إعادة تعويم نفسه وقطع الطريق على من يريد أن يدخل شريكاً مُضارباً عليه من العائلة أو خارجها. أما على صعيد الدائرة الأوسع، فلا شكّ أنه يريد استغلال الفرصة لتكريس نفسه «رئيس الأمر الواقع الذي لا بديل له»، والعنصر الأساسي في الإنقاذ، والشريكَ في صياغة القرار وممثلَ السنّة الأعلى في الدولة.
إذاً، تتوافر عناصر التأليف السريع، تتقدّمها رغبة الحريري في ذلك. وإذا ما تقاطعت الأسباب المذكورة، فستكون التصريحات عن حكومة اختصاصيين، مجرد «رشّة ملح» لإعطائها نكهة مختلفة. أما في الكواليس، حيث تُخاط الحكومة، فيمكن الاتفاق على واحدة شبيهة بحكومة دياب تضمّ اختصاصيّين تسميهم الأحزاب، ليبقى الاتفاق على البرنامج هو الأساس، ولا سيما في ما يتعلق بالتعامل مع صندوق النقد الدولي وشروطه. طبعاً، لن يكون للحريري ما يريده من تفويض مطلق، لكن الباب ليس مقفلاً أمام النقاش… «بعض النقاط سيكون الاتفاق عليها شرطاً للتأليف. فيما البعض الآخر سيُرحّل الى مجلس النواب ويجري تشريحه في الهيئة العامة» كما تقول أوساط مطّلعة.