تمنى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، على رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري “الحذر من الاتّفاقيات الثنائية السرّية والوعود فإنّها تحمل في طيّاتها بذور خلافات ونزاعات على حساب نجاح الحكومة”.
وقال للحريري في عظة الأحد: “تخطَّ شروط الفئات السياسية وشروطهم المضادة وتجنّب مستنقع المصالح والمحاصصة وشهيّة السياسيين والطائفيين والشعب منهم براء، وباحترام، إلتزم فقط بنود الميثاق والدستور ومستلزمات الإنقاذ وقاعدة التوازن في المداورة الشاملة”.
وجاء في عظة الراعي:
“تحتفل الكنيسة في هذا الأحد الأخير من السنة الطقسيّة بعيد يسوع الملك. في هذا العيد تقرأ الكنيسة إنجيل الدينونة كما رواه القدّيس متى الإنجيليّ. يؤكّد فيه الربّ يسوع أنّه سوف يديننا على المحبّة تجاه أي إنسان بحاجة جسديّة أو ماديّة أو روحيّة أو معنويّة. وأكّد أيضًا أنّه يتماهى مع المحتاجين ويسميّهم “إخوته الصغار”، وهم كلّ جائع وعطشان وعريان وغريب ومريض وسجين (متى 25: 35- 40). إملأ يا ربّ قلوبنا بمحبّتك لكي نجسّدها لكلّ إنسان في حاجة.
بالأمس أنهينا أسبوع الرياضة الروحيّة السنويّة مع إخواننا السادة المطارنة الآتين من لبنان والنطاق البطريركيّ الأنطاكيّ وبلدان الإنتشار. وقد حملنا بصلاتنا كلّ أبناء كنيستنا إكليروسًا وعلمانيّين حيثما وجدوا. وصلّينا من أجل شفاء المصابين بوباء كورونا وسائر المتألّمين من مرضى وجائعين وفقراء ومظلومين ومهمَلين. وصليّنا من أجل لبنان وشعبه ومنكوبي إنفجار بيروت وضحاياه الموتى والأحياء. والتمسنا من الله حلّ الأزمة اللبنانيّة بدءًا بتكليف رئيس جديد للحكومة، وبتشكيلها بأسرع ما يمكن على أسس سليمة، مبنيّة على الدستور والميثاق، وقادرة على إجراء الإصلاحات والنهوض الإقتصاديّ والماليّ والمعيشيّ. فنشكر الله على الـتكليف ونسأله أن يواكب التشكيل بمسّ ضمائر جميع المسؤولين وقلوبهم، محرّرًا إيّاها من أسر المصالح والكيديّة، الشخصيّة والسياسيّة.
سنُدان على المحبّة
يحدّد الربّ يسوع في الإنجيل ستّة أنواع من حاجات الإنسان: وهي الجوع والعطش، والغربة، والعري، والمرض، والسجن. لكنّها لا تقتصر على الوجه الجسديّ والماديّ، بل تشمل أيضًا الوجه الروحيّ والمعنويّ والإنسانيّ والإقتصاديّ. وهي حاجات نجدها في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. وكلّ واحدٍ وواحدة منّا جميعًا مدعوٌّ، من موقعه وإمكاناته ومسؤوليّاته، لتلبيتها، إفراديًّا أو جماعيًّا.
فالجوع جوعٌ إلى الطعام والخبز، وأيضًا إلى عدالة وحقوق وفرصة عمل، وإلى علم ومعرفة. والعطش عطشٌ إلى الماء، وأيضًا إلى محبّة وتفهّم وقبول من الآخرين، وإلى مكانة في المجتمع.
والغربة غربة عن العائلة والوطن، وأيضًا غربة في العلاقات المنغلقة عن الحوار البسيط والصريح،وفي الإنطواء على الذّات وعدم الثّقة. والعري عريٌ من الثياب، وأيضًا عريٌ من الكرامة عندما تُنتهك من داخل الذات ومن الخارج، وعريٌ من قدسيّة الحياة عندما تُداس بالعنف والإعتداء، وعُريٌ من الحقوق الأساسيّة التي تُقرّها شرعة حقوق الإنسان.
والمرض مرضٌ جسديّ وعقليّ ونفسيّ، وأيضًا مرضٌ روحيّ وهو حالة العيش في الخطيئة من دون توبة، ومرض معنوي وهو حالة اليأس والقنوط والحزن، والألم من جرّاء الحرمان والجوع، وأيضًا مرض الكبرياء والحسد والبخل، ومختلف الرّذائل. والسجن سجنٌ وراء القضبان الحديدية، وأيضًا سجنُ عبادة الذات، والإرتهان لأشخاص وإيديولوجيّات، وللرأي والموقف، والإستعباد لتعاطي المخدّرات،وللسكر، والإدمان على لعب القمار.
وتخضع لهذه الدينونة ولشرعة المحبّة الجماعة السياسيّة، لا سيما وأنّها وُجدت من أجل تأمين الخير العام، الّذي منه خير الجميع، وخير كلّ إنسان، على المستوى التشريعيّ والإجرائيّ والإداريّ والقضائيّ والإقتصاديّ والماليّ والحقوقيّ والتربويّ والصحيّ والأمنيّ. إلى الآن أخفق المسؤولون في المؤسّسات الدستوريّة والإدارات العامّة في واجب تأمين هذا الخير العام، لأنّهم إعتنوا فقط بخيرهم الشخصي الخاص، وبعدم الولاء للوطن، وبالفساد وسرقة المال العام وتقاسم المغانم. ففكفكوا أوصال الدولة، وأفقدوها هيبتها وكسروا وحدتها، وأرهقوها بالديون وأفقروا شعبها، واستباحوا السلاح غير الشرعيّ والمتفلّت، وهجّروا شبابها وقواها الحيّة، وأوصلوها إلى حالة البؤس.
أمام هذا الواقع الأليم والإلتزام بإزالته، تقف الحكومة العتيدة قبل تشكيلها وبعده. فإنّا، إذ نهنئ رئيسها المكلّف السيد سعد الحريري، نُشجّعه ونرغب إليه أن ينطلق في تشكيل حكومته من هذا الواقع. فمعه الشعب المنتظر الفرج، والثورة الإيجابيّة العابرة للطوائف والأحزاب والمناطق، ومعه اللبنانيّون المحبّون للبنان، ومعه الكنيسة المؤتمنة على خير كلّ إنسان، ومعه منكوبو نصف العاصمة بيروت المدمّرة من إنفجار المرفأ، وأكثريّة أهلها الساحقة من المسيحيّين.
فتخطَّ، أيّها الرئيس المكلّف، شروط الفئات السياسيّة وشروطهم المضادّة، وتجنّب مستنقع المصالح والمحاصصة وشهيّة السياسيين والطائفيين، فيما الشعب منهم براء. من أجل بلوغ هذا الهدف نقول لك بإحترام ومودّة: إلتزم فقط بنود الدستور والميثاق، ومستلزمات الإنقاذ، وقاعدة التوازن في المداورة الشاملة وفي إختيار أصحاب الكفاءة والأهليّة والولاء للوطن، حيث تقترن المعرفة بالخبرة، والإختصاص بالإستقلاليّة السياسيّة. إحذر الإتفاقيّات الثنائيّة السريّة والوعود، فإنّها تحمل في طيّاتها بذور خلافات ونزاعات على حساب نجاح الحكومة: “فلا خفيّ إلّا سيظهر، ولا متكوم إلّا سيُعلم ويعلن، لأنّ كلّ ما قلتموه في الظلمة سينادى به على السطوح” (لو 12: 2-3)، على ما يقول السيّد المسيح. لا تضع وراء ظهرك المسيحيّين، تذكّر ما كان يردّد المغفور له والدك: “البلد لا يمشي من دون المسيحيّين”. هذا انتباه فطن وحكيم، فالمسيحيّون لا يساومون على لبنان لأنّه وطنهم الوحيد والأوحد، وضحّوا كثيرًا في سبيل إيجاده وطنًا للجميع، وما زالوا يضحّون.
أنتم هذه المرّة، خلافًا لكلّ المرّات السابقة، أمام تحدٍّ تاريخيّ وهو إعادة لبنان إلى دستوره نصًّا وروحًا، وإلى ميثاقه، وإلى هويّته الأساسيّة الطبيعيّة كدولة الحياد الناشط، أي الملتزمة ببناء سيادتها الداخليّة الكاملة بجيشها وقواها العسكريّة، والقائمة على سيادة القانون والعدالة، والممسكة وحدها بقرار الحرب والسلام، والمدافعة عن نفسها بوجه كلّ إعتداء خارجيّ بجيشها وقواها الذّاتيّة، والفاصلة بين الحقّ والباطل. دولة حياد ناشط في تعزيز لقاء الثقافات والحضارات والأديان وحوارها، وفي الدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب لا سيما العربيّة منها.ودولة حياد ناشط تنأى بنفسها عن الدخول في أحلاف وصراعات وحروب إقليميّة ودوليّة. هذا الحياد الناشط هو المدخل الضامن إلى الوحدة الداخليّة وإلى الإستقرار والنهوض الإقتصاديّ والماليّ والإنمائيّ والإجتماعيّ.
تطلّع يا دولة الرئيس، مع فخامة رئيس الجمهوريّة بعين واحدة: إلى بيروت المدمّرة التي يجب إعادة إعمارها، وإلى نجاح مفاوضات ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، مصير النفط والغاز وتأمين مردوده إلى خزينة الدولة؛ وإلى مواكبة المبادرة الفرنسيّة والإشراف على المساعدات والهبات الآتية من الدول الخارجيّة.
أمّا الآن وقد انتهت استشارات التأليف، والمطالب إتّضحت، وحاجة البلاد معروفة، وحالة المنكوبين المأساويّة ضاغطة، وشروط الإنقاذ الدوليّ صريحة، فلا يبقى سوى العجلة في تشكيل الحكومة. والعجلة هذه المرّة من الله. فلا تخيّبوا مرّة أخرى آمال اللبنانيّين والمجتمع الدوليّ. لست أعني بالعجلة التشكيل كيفما تيسّر، وعلى قاعدة: “من مشى مشى، ومن لم يمشِ يبقى خارجًا”. لبنان ذو نظام ديمقراطي يتفاهم فيه الجميع موالون ومعارضون من أجل الخير العام.”