كتب مازن عبيد في صحيفة نداء الوطن:
انتهى المطاف بعدد من صنّاع الأحذية أو أصحاب محلات تصليحها، والموزّعين في أكثر من حيّ أو مكان في مدينة طرابلس إلى الإقفال، ما خلا عدد قليل منهم في سوق الكندرجية، أحد الأسواق الشعبية التاريخية في طرابلس، الذين ما زالوا يحافظون على مهنتهم العتيقة بالرغم من المصاعب التي باتت لا تُعدّ ولا تحصى.
ولعلّ سوق الكندرجية الذي سميّ بهذا الإسم لأنه حوى عبر التاريخ “الكندرجية” الذين امتهنوا هذه المهنة وكان لهم وللسوق عصر من الألق والتوهّج، هو اليوم كغيره من الأسواق الطرابلسية؛ بقايا سوق، يصارع مع من فيه أو من تبقّى فيه من أصحاب المهنة، لأنهم لا يملكون مهنة أخرى يعتاشون منها مع عائلاتهم. وفي زيارة إلى هذا السوق المجاور للسوق العريض لبيع الألبسة والأقمشة، يتبين انه لم تشفع بعض الماكينات الحديثة التي تعمل على الكهرباء، وقد اشتراها أصحابها لتطوير العمل ومواكبة الموضة الحديثة، فالزمن تغيّر برمّته، ولو بقي على حاله لبقي للسندان والمطرقة وهجهما، ولبقي للسوق رونقه كما يعرفه أولئك “العتيقون” في المهنة والسوق. المحلات فيه صارت تعدّ على الأصابع، بعضها يعمل على الماكينات الحديثة وبعضها الآخر ما زال القديم فيه على قدمه، وعلى المطرقة والسندان.
وضعُ السوق تغيّر كثيراً عما كان عليه منذ عشرات السنين، فكلّ سنة إلى الوراء، وكانت الطامة الكبرى مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
ويقول عبدالله حيدر، صاحب محلّ في سوق الكندرجية منذ 43 سنة، لـ”نداء الوطن”: “كلّ شيء في السوق تغيّر بين الأمس واليوم. كانت هذه المهنة تفتح بيتاً وتُطعم العائلات. هنا في هذه القنطرة حيث يوجد محلي، كان السوق يجمع كبار الكندرجية في طرابلس، الذين يصنعون أفضل أنواع الأحذية للزبائن “الشيك”… كانت المصلحة مزدهرة ونوعية الزبائن المرتّبة كانت تأتي من كل اتّجاه. طبعاً، دخول البضاعة المستوردة كان له أثرٌ سلبي علينا لكنّه لم يستطع أن يقضي على هذه الصناعة التي حافظت على زبائنها بقسم كبير منهم”.
وأضاف: “كان لديّ عمّال عدّة، فأصبح لدي عامل واحد أُجرته في اليوم 20 ألف ليرة، وكصاحب عائلة، لا تقدّم له أي شيء أو تؤخّر في ظلّ هذا الغلاء، لكنني بالمقابل أحتار كيف أؤمنها في نهاية الدوام. الأحداث التي مرتّ وتمرّ فيها طرابلس أدّت إلى تراجع كل الأسواق والقطاعات. خرجنا الآن من مرحلة التصنيع إلى مرحلة التصليح والرتي، ننتظر حذاء من هنا أو هناك نعمل على إصلاحه، ولا ندري ماذا نفعل غير ذلك، لأننا لا نملك مهنة غيرها.. نعمل بخسارة ولولا بعض البضاعة التي لدينا من أيام دولار الـ 1500 لما كنا استطعنا أن نفتح حتى أسبوعاً واحداً”.
ويضيف حيدر:”غلاء الدولار أثّر علينا كثيراً، فالكعبية مثلاً كنا نشتريها بدولار يعني 1500 وناخد عليها 4000 ليرة، هلأ صارت بثمانية آلاف وعم ناخد عليها ثمانية آلاف!! فإذاً عم نشتغل بس لنشتغل.. أحياناً بيمرّ كلّ اليوم على تصليحة واحدة بثلاثة آلاف ليرة.. فكيف سندفع للكهرباء والإشتراك والإيجار وباقي الرسوم؟”.
وينتقد حيدر أداء نواب طرابلس ويقول: “أيام الانتخابات بتشوفن عم ينغلوا بالسوق وبين المحلات هني وجماعتن وبيسألونا شو بدكن طلبوا وتمنّوا!!.. بعد الانتخابات لا حسّ ولا خبر”. أما عن بلدية طرابلس فيؤكد أنها “لا تقدّم أي مساعدة لهذه المهن التاريخية والأسواق العريقة، لكنها لا تتأخر يوماً واحداً حتّى تحصل على الضرائب والقيمة التأجيرية التي تفرضها على أصحاب المحلات في السوق”.
تحت القنطرة المُتعبة المُتهالكة تلك التي تحكي بأحجارها حكاية من عبق التاريخ الطرابلسي، وتظلّل سوق الكندرجية الحالي، والمجاورة لمعظم أسواق طرابلس القديمة، مرّ الكثير من الشخصيات المهمّة في تاريخ المدينة والمناطق، فصنعت أجمل الأحذية ولبستها. كل هؤلاء ذهبوا، كما ذهب العصر الذهبي للسوق، فما زالت تلك القنطرة شاهداً على كل ما كان، فهل ستبقى شاهدة أيضاً على كل ما سوف يكون؟