كتب نبيل هيثم في صحيفة الجمهورية:
“تقدم في ملف تشكيل الحكومة الجديدة”; هذه العبارة التي وردت في التغريدة الرئاسية المقتضبة بعد اللقاء الثاني الذي جمع رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري باتت من الأدبيات النادرة في السياسة اللبنانية عموماً، وفي عمليات التشكيل الحكومي خصوصاً، منذ أن بات لبنان مفتقداً لأية كلمة تحمل ايجابيات، أقله منذ عام مضى.
هذا ما يجعل الكثيرين حذرين في التفاؤل في شأن تشكيل الحكومة الجديدة، برغم الانفراجات التي تحققت خلال الأسبوع الماضي، والتي أفضت إلى تسمية الحريري، وما تلاها من مواقف ايجابية – على الأقل ظاهرياً – بشأن احتمالات تسهيل مهمة التأليف، التي ما زالت تسير في حقل ألغام تحوم فيه شياطين التفاصيل، والتي غالباً ما تتجسد في سيل التسريبات المتناقضة، والتي دفعت رئاسة الجمهورية إلى اصدار بيان ينفيها جملة وتفصيلاً، من دون الكشف عمّن يسرّب، والذي يمكن افتراض أنه من أهل البيت الرئاسي.
في العموم، وإذا ما أخذت الأمور بظاهرها، وعطفاً على حرص الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري على قضاء الحوائج الحكومية بالكتمان، يمكن افتراض أن التشكيلة الحكومية قد تبصر النور خلال فترة قصيرة جدا، ما لم يطرأ أي تطوّر داخلي أو خارجي يعيد العملية برمّتها إلى المربّع الصفر.
حتى اللحظة، يبدو أن الدفة ما زالت تميل إلى الايجابية التي تجعل البروتوكول الخاص بعملية التشكيل الحكومي منتظراً في أية لحظة؛ تلك الايجابية، ولو كانت حذرة، تمضي وسط مواقف داخلية وخارجية نادرة.
على المستوى الداخلي، يسجل المواكبون لمساعدة التأليف خمس ايجابيات، تشي بأن الأمور تسير باتجاه الحل.
أولاً، موقف رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بعد الاستشارات النيابية التي أجراها الحريري، والتي انطوت، في ما بين سطورها، على رغبة في التعاون، وإن استعادت سرديات “المعايير الواحدة الموحدة” التي باتت منذ فترة كلمة حق يراد بها باطلاً، والتي يبدو الهدف منها حالياً مختلفاً عن المرات السابقة، لاسيما في الشق المتصل بانقاذ اسهم باسيل الرئاسية المتهاوية أملاً بتسوية جديدة تصب في صالحه، والشق الآخر المتمثل في حاجة التيار البرتقالي إلى شد العصب المسيحي مجدداً، بعدما تمكنت “القوات اللبنانية” من سحب الكثير من الرصيد العوني لصالحها.
ثانياً، تأكيد صريح من قبل الثنائي الشيعي، قولاً وعملاً في تسهيل عملية التأليف، لا سيما أن الحريري قد أدرك جيداً، انطلاقاً من تجربة مصطفى أديب، أن أي محاولة للالتفاف على “الثنائي” هي من الخطوط الحمراء.
ثالثاً، حلحلة للعقد على خط بيت الوسط – كليمنصو من شأنها أن تترجم في عملية التأليف، في حال تمّت حلحلة العقدة مع طلال ارسلان.
رابعاً، هدوء نسبي في الشارع، لاسيما بعد تجاوز “قطوع” الذكرى السنوية الأولى لـ17 تشرين، التي حاول البعض الترويج لها بأنها ستكون “ثورة ثانية”.
خامساً، الارتياح الذي تبدّى في سوق الصرف والذي بدأ فور تكليف الحريري ويسير على ايقاع الاجواء الحكومية السائدة.
أما خارجياً، فيبدو ، في رأي مصادر سياسية، أن المعطيات الإقليمية والدولية التي سهّلت تكليف الحريري قد تنسحب على تأليف الحكومة، فالحراك الفرنسي يتكثف قبل الزيارة الثالثة لإيمانويل ماكرون في كانون الأول المقبل، وفرنسا، برغم التطورات الداخلية الأخيرة بعد حادثة الذبح في باريس، لا تزال مصرة على تحقيق انجاز خارجي من البوابة اللبنانية في خضم صراعها مع تركيا في شرق المتوسط.
على هذا الأساس، تضيف المصادر، جاءت تسمية الحريري لتشكل عملية انعاش للمبادرة الفرنسية، التي انتكست بعد اعتذار مصطفى أديب، ولعلّ الحراك الصامت على خط بيروت – باريس يظهر أن ماكرون لا يزال مستعداً للمضي قدماً في الملف اللبناني.
امتداداً لما سبق يمكن افتراض استمرارية الدعم الروسي والايراني للمبادرة الفرنسية، فموسكو وباريس، وبعد احتواء التصعيد الأخير المتمثل في قضية اليكسي نافالني، متقاطعتان في الكثير من الملفات الإقليمية، وهو ما ينسحب على كل من طهران وباريس خصوصاً أن الاخيرة أبدت ايجابية كبرى في مسألة رفع الحظر عن الجمهورية الاسلامية.
يضاف إلى ما سبق، أن ثمة تحوّلاً نسبياً، يمكن البناء عليه، في السياسات الأميركية بخصوص لبنان، لاسيما في الوقت المستقطع عشية الانتخابات الرئاسية، وهو ما تبدّى في الاتصال الأخير الذي أجراه وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو برئيس الجمهورية، الذي أوحى بأنّ ثمة نية أميركية لعدم وضع العصي في دواليب عملية التأليف، وهو ما عبر عنه مؤخراً أكثر من مسؤول أميركي.
علاوة على ذلك، يبدو أن ثمة تحييداً هذه المرة للدور السعودي-الاماراتي من عملية التأليف، وهو أمر يبدو أنه نتيجة تلاقي مصلحة داخلية وأخرى خارجية لتحييد لبنان عن عامل الصراع الخليجي – الايراني، وهو أمرٌ لم يكن ممكناً لولا انشغال الخليج بموجة التطبيع مع اسرائيل من جهة، والتوجهات التكتيكية لكل من الولايات المتحدة وايران الهادفة إلى تهدئة التوتر الاقليمي، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية.
بهذا المعنى، ربما تكون عودة الحريري هي نقطة تقاطع فرنسية-أميركية-ايرانية، وترتيبات اقليمية مؤقتة، يمثل التقاطها فرصة نادرة، وربما محدودة الوقت، لتسوية داخلية، ولو مؤقتة، من شأنها أن تبعد لبنان عن حافة الهاوية، وهو ما يفسر الاستعجال الحالي في عملية التأليف، وهو أمر يدفع إلى الاعتقاد بأن ثمة رغبة عونية – حريرية للمضي قدماً في هذه العملية قبل الانتخابات الأميركية، رغم أن الاستحقاق الداخلي الاميركي لا يعدو كونه نقطة مفصلية رمزية، اخذاً في الحسبان أن التوجهات الجديدة في السياسة الأميركية – وأياً كان المرشح الفائز – لن تتبلور قبل شهر شباط المقبل.
كل هذا المناخ الايجابي لا يعني بالضرورة، في رأي المصادر، أن العقد الأساسية ستحلّ حكماً، فالتجربة السابقة أظهرت أن ثمة اشكاليات كثيرة لا تزال تشكل الغاماً متفجرة في كل استحقاق سياسي في لبنان، ابتداءً باشكاليات المداورة والتمثيل ومعايير اختيار الوزراء، لاسيما أن الحريري كان حاسماً في هذا السياق حين تحدث عن حكومة اختصاصيين غير منتمين إلى أحزاب، وهو أمرٌ من شأنه ان يفتح الكثير من الاجتهادات في بلد مثل لبنان.