كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
تمر ذكرى انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون حزينة، وسط أزمة مالية غير مسبوقة وتَململ شعبي كبير وغياب أفق المعالجات المطلوبة، ومنطقة مفتوحة على التحولات التي لن يكون لبنان بعيداً عنها.
دخل رئيس الجمهورية في سنته ما قبل الأخيرة وسط كَمّ هائل من التساؤلات: هل أخطأ عون بسعيه إلى رئاسة الجمهورية؟ وهل وضعه اليوم في 31 تشرين الأول 2020 أفضل من وضعه في 30 تشرين الأول 2016؟ وألم يكن من الأفضل لو بقي زعيماً لا رئيساً؟ وما الإضافة التي قدمتها له الرئاسة الأولى؟ وهل كان يظنّ أساساً أنه سيكون الرئيس الذي سينهي الأزمة اللبنانية، أم في أفضل الحالات الرئيس الذي يدير هذه الأزمة؟ وهل كان يتوقع ان تتفاقَم الأزمات في عهده بدلاً من ان تتراجع؟ وهل سيتمكن في الوقت المتبقّي له في الرئاسة من أن يَمحو من أذهان الناس الكوارث التي ألَمّت بهم في عهده؟ وهل سيسلِّم البلد أفضل ممّا تَسلّمه؟ وهل ما بعد ولايته سيدخل البلد في فراغ طويل سعياً إلى خلافة لن تحصل؟ وهل ما زال يعتقد ان خلافته عن طريق رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ممكنة؟ وهل ما زال يضع هذا الهدف نصب عينيه؟ وهل سيسعى إلى التمديد والتجديد أم الاستمرار بقوة الفراغ وحجّة تصريف الأعمال في انتظار انتخاب الخلف أسوة برئيس الحكومة الذي يبقى في السرايا إلى ما بعد التكليف فالتأليف، فيبقى عون في القصر إلى ما شاء الله عن طريق تعطيله والحليف انتخاب الخلف؟ وكيف سيواجه في المرحلة الفاصلة عن نهاية ولايته؟ وما الأولويات التي سيعمل عليها في هذه المرحلة؟ وماذا يُخفي ويعدّ ويحضِّر؟
وما تقدّم هو غَيض من فيض الأسئلة والتساؤلات المطروحة في هذه المحطة، التي لا بد أيضاً من التوقّف أمام بعض الانطباعات المتصلة بالأحداث والعناوين والمحطات التي سبقتها وتخللتها:
أولاً، لم يكن عون لِيُنتخَب رئيساً للجمهورية لو لم يتخلَ الرئيس سعد الحريري عن ترشيح الدكتور سمير جعجع بحجّة الفراغ المتمادي وخطورته على النظام، وتَبنّيه لمرشح من 8 آذار أدى إلى كسر قاعدة التوازن بين عون وجعجع، والتي كانت وحدها المَعبر من أجل الوصول إلى رئيس وسطي.
ـ ثانياً، لم ينتخب عون إلّا بعد ان حَظي بدعم الحريري الذي كان قد بادَر إلى ترشيحه قبل ان ينتقل إلى ترشيح رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، وهذا إن دَلّ على شيء، فعلى حِرص «حزب الله» أن يكون انتخاب عون نتيجة تفاهم شيعي – سني، والدليل انّ ترشيح عون من قِبَل جعجع في 18 كانون الثاني 2016 كان كافياً لانتخابه، ولكن الحزب لم يقدم على هذه الخطوة إلّا في 31 تشرين الأول 2016، اي بعد ان اكتمل تفاهمه على هذه الخطوة مع «المستقبل».
– ثالثاً، شَكّل تأييد «حزب الله» لعون وانتخابه افتراقاً استراتيجياً داخل «الثنائي الشيعي»، حيث واجَه رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا الخيار بكل الوسائل المتاحة وحتى اللحظة الأخيرة، ما أشَّرَ آنذاك إلى دخول الحزب على الحياة السياسية من باب رئاسة الجمهورية وإطاحته توزيع الأدوار داخل هذا الثنائي بين اختصاص أمني للحزب وسياسي لبري، وبالتالي شَكّل نكسة وانتكاسة لدور بري السياسي
وبدلاً من ان يتعامل العهد بمرونة مع هذا التطور ويعمد إلى مزيد من تطويره، ذهبَ في اتجاه محاولة كَسر بري، الأمر الذي لا يمكن ان يسمح به «حزب الله» ضمن التوازنات داخل بيئته وحرصه على إبعاد الخلافات والانقسامات عن طائفته.
رابعاً، تلقّى الثلاثي بري والحريري ورئيس الحزب «التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط ضربة موجعة بانتخاب عون، هذا الثلاثي الذي كان داعماً لخيار فرنجية، وشَكّل عنوان المرحلة الممتدة منذ العام 1992 وحتى العام 2005 ونشوء التحالف الرباعي بانضمام «حزب الله» إلى هذا الثلاثي، فيما شَكّل انتخاب عون انفصالاً من الحزب عن هذا التحالف. وعلى رغم الانقسامات التي تَلت مرحلة انتفاضة الاستقلال وخروج الجيش السوري من لبنان، لم تنقطع «شعرة معاوية» بين هذا الثلاثي، والذي بفِعل أخطاء العهد عاد لِيطلّ برأسه بقوة مجدداً على المسرح السياسي.
– خامساً، يعتبر عون أوّل رئيس جمهورية تمثيلي منذ العام 1989 بعد إقرار «اتفاق الطائف» واغتيال الرئيس رينيه معوّض وانتخاب الرئيس الياس الهراوي، وبدلاً من التركيز على العنوان التمثيلي ذهبَ البعض خطأً في اتجاه «الرئيس القوي»، حيث لا قوة في مجتمع تعددي تقف فيها قوة كل طائفة عند حدود غيرها من الطوائف، ولكنّ انتخابه أعاد الشراكة الوطنية المفقودة منذ الانقلاب على «الطائف»، وهي شراكة على 4 مستويات أساسية: التوازن بين الرئاسات، التوازن داخل الحكومة، التوازن داخل مجلس النواب، التوازن على مستوى الإدارة. وعلى رغم الممارسة السيئة للعهد، فإنه لا يجوز إطلاقاً العودة بعد انتهاء ولايته إلى ممارسات ما قبله، حرصاً على الشراكة والميثاق ودور البلد ورسالته.
وهذا التوازن لم يتحقق بعضلات العهد، إنما من خلال «اتفاق معراب» الذي أسقَطه باسيل لاعتبارات رئاسية، فيما كل الأزمات التي لحقت بالعهد كان سَببها الأجندة «الخلافية الرئاسية» التي أطاحَت الأجندة الإصلاحية، فيما كان يفترض التعامل مع الخلافة كاستحقاق يشكّل مطلباً شعبياً لاستمرار حكم ناجح لا فاشل. وبالتالي، لو تم التركيز على الإنجازات لا الانتخابات لَما وصلَ العهد إلى ما وصل عليه وضاعت فرص الخلافة نهائياً.
– سادساً، تقاطعت على انتخاب العماد عون، خياراً ام اضطراراً، 6 قوى أساسية، ولم يبق من هذه القوى حليفاً إلّا قوة واحدة، ولكن من دون أي وعود تتصِل بالخلافة وغيره، في وقت عاد ليشكّل الاستحقاق الرئاسي ملفاً رئيساً على طاولة حسابات القوى السياسية التي تترقّب نتائج الانتخابات الأميركية ومقاربة الإدارة الأميركية للمنطقة وملفاتها، كما تنتظر تراجع حدة الأزمة المالية، من أجل ان تفتح السباق الرئاسي على مصراعيه.
ولا شك في انّ العهد يتعامل مع الحكومة في اعتبارها قد تكون الأخيرة، ولذلك لن يتهاون في 3 أمور مترابطة بعضها مع بعض: ضمان تعاون الحريري من أجل ان يَصبّ عمل الحكومة في مصلحة العهد لا ضده، الإمساك بمفاصلها والثلث المعطِّل داخلها من أجل تعطيلها عند المقتضى والحاجة، وان تكون جزءاً لا يتجزّأ من عدّة شغل الاستحقاق الرئاسي وحكومة ما بعد الفراغ الرئاسي.
ومَن وَاكبَ العقل العوني منذ العام 1988 إلى اليوم، يدرك انّ هذا العقل يمكن ان يقوم بخطوات غير متوقعة ولا منتظرة ولا علاقة لها بالمنطق الوطني والسياسي والدستوري. ولذلك، يجب تَوقّع أي شيء يمكن ان يُقدِم عليه ربطاً بالاستحقاق الرئاسي المقبل، ولكن ما لا يجب توقّعه إطلاقاً هو ان يترك عون القصر الجمهوري منتصف ليل 31 تشرين الأول 2022 بهدوء وسكينة وسلام، كما لا يجب توقّع تسليماً وتسلّماً بليونة وسلاسة. ولكن في مطلق الحالات، من الآن وحتى انتهاء الولاية، قد «يخلق الله ما لا تعلمون» في ظل تحولات كبرى تشهدها المنطقة…