كتبت سمر فضول في “الجمهورية”:
“حتّى أيّام الحرب كان الوضع أفضل مما هو عليه اليوم”، عبارة يردّدها كثير من المسنين الذين عايشوا تلك المرحلة ببشاعتها ومرارتها. ورغم ذلك يؤكّدون أنّ الأوضاع الإقتصادية كانت أفضل بكثير مما هي عليه اليوم. الّا أنّ هذا التغيير كان له فوائد لدى بعض الحِرَف والمهن التي اعتقدنا انّها “انقرضت” مع الأيام، وساهمت “البحبوحة” التي اعتاد عليها اللبناني بتراجعها، مقابل النمط الاستهلاكي الكبير الذي سيطر على يومياتنا، فأغلق “السكّاف” محله، كما فعل الخياط وكل ما يتصل بمهنة “التصليح”.
اليوم كل شيء تغيّر، عادت الحركة عند هذه المهن، وبات من الصعب على اللبناني رمي ما كان يعتبره «عتيقاً»، طالما أنّ امكانية اصلاحه متوافرة والإتيان بآخر جديد بات من المستحيلات، لأنّ سعره يمكن أن يكون ثلاثة أضعاف راتبه.
خيّاطة
مهى، إحدى الامهات الباحثات عن «توفير المصروف» في ظلّ الأزمة المستفحلة في البلاد، والموظفة في احد المصارف، خرجت بعد إنتهاء دوام عملها، برفقة إبنتها للتسوّق، وقصدت أحد المولات الذي كانت تترد اليه بنحو دوري، لتلقي نظرة على الـ»كولكسيون الجديدة» الخاصة بالشتاء، وتختار منها ما يناسبها وإبنتها.
لكنّ مهى عادت الى منزلها خالية الوفاض، والصدمة تعتريها. فهي ورغم أنّها تتقاضى جزءاً من راتبها بالدولار، حسب سعر الصرف المحدّد على منصّة مصرف لبنان، الّا أنّها لم تجد كنزة سعرها أدنى من 300 ألف ليرة، أو بنطالاً بأقل من 400 ألف، وفستاناً دون الـ 600 ألف ليرة.
أمّا الأحذية فحدّث ولا حرج، كما المعاطف والسترات، فأسعارها تتخطّى الـ 800 ألف… فما كان منها الّا أن عادت أدراجها، لتبحث عمّا في خزانتها من ثياب يمكن أن يساعد «الخياط» في اعادة ارتدائها أو رتيها، لتكون بديلة عن أي جديد لم يعد شراؤه ممكناً.
هذه الواقعة، تؤكّدها جومانا التي تعمل في أحد محلات الخياطة في منطقة البوشرية. وتكشف لـ «الجمهورية»، أنّ أعمال الخياطة في السنوات التي خلت، كانت تقتصر على تقصير بنطال أو فستان جديد ليتناسب مع طول السيّدة. أمّا اليوم فعملها بات أشمل وأوسع، لدرجة أنّ الساعات الثماني في العمل لم تعد تكفيها لتلبية حاجات الزبائن.
تتحدث جومانا عن زبائنها فتقول، انّ «الناس لم تعد تشتري ثياباً جديدة، بل تُصلح الملابس التي تملكها، فمن كان يحتفظ بقميص لا يتناسب ومقاس جسمه، بات اليوم في حاجة الى تعديل المقاس وكذلك حال البنطال”. وتشير الى أنّ بعض السيدات يطلبن “رتي” أو إصلاح الملابس، كما أنّ بعضهنّ يطلبن إدخال «أكسسوارات» احتفظن بها قبل سنوات على ثياب لديهنّ، ما يغيّر في شكلها ويوحي بأنّها جديدة. وتلفت جومانا الى أنّ بعض الزبائن يطلب إصلاح قطع من الصعب إصلاحها كالكنزات مثلاً، عبر إبتكار أفكار جديدة لرتيها بطريقة احترافية.
سكّاف
وكما الملابس كذلك الحال عند السكّاف، الذي قلّ وجوده، فبات عليك اليوم أن تنتظر أيّاماً قبل أن يعيد الحذاء المطلوب إصلاحه.
يقول صاحب محل تصليح أحذية في محلّة الجديدة، إنّ منسوب العمل إرتفع بنسبة 70%. ويوضح، أنّ إرتفاع أسعار الأحذية النسائية والرجالية جنونياً دفع المواطن الى إصلاح حذائه، بعدما كان حتى الامس القريب يتخلّى عنه لشراء آخر.
ويؤكّد، أنّ الناس تلجأ الى اصلاح الأحذية من مختلف الأنواع، حتّى الأقل ثمناً منها، إذ وصل الحال ببعض الزبائن الى طلب اصلاح «المشاية» التي تمزّقت، حتّى تلك المصنوعة من النايلون، فسابقاً كان ثمنها لا يتعدّى الـ15 ألف ليرة لبنانية، أمّا اليوم، فثمنها يتخطّى الـ40 والـ50 ألف ليرة.
ويكشف أنّ كثيراً من السيدات تأتي بأحذية من «الكعب العالي»، لم تعد تحاكي موضة اليوم، ولكنها لا تزال في حال جيّدة، وتطلب التعديل أو التغيير في شكلها لتلائم الموضة، وهكذا تربح حذاء جديداً من دون أن تدفع رقماً خيالياً، إذ ومهما إرتفعت كلفة التصليح تبقى أقل وأدنى من كلفة شراء حذاء جديد. كذلك، تلجأ بعض السيدات الى تغيير لون الحذاء، لتبدو وكأنّها إشترت آخر جديداً.
“مونة”
ولأنّ اللبناني يجيّر أكثر من نصف راتبه لشراء المواد الغذائية والاساسية التي يحتاجها، عادت ظاهرة “المونة” الى الواجهة من جديد.
فالمونة اللّبنانية التي غابت عن المائدة لسنين خلت، بعد إستبدالها بالأجبان والألبان المستوردة والمصنعة، والفاكهة والخضروات المعلبة، وإستغنى عنها اللبناني في كثير من المأكولات التي كانت تحضّرها السيدات اللّبنانيات سابقاً، ها هي تعود لتجتاح الحياة اليومية. وقد إنهمك كثير من السيدات بتحضير المونة هذا الصيف، بمختلف أنواعها.. أمّا السيدات العاملات، فبتنا يبحثن على مواقع التواصل الإجتماعي، بين مواقع السيدات التي تعدّ المونة في منازلها، ويسعين لبيعها بأسعار تحاكي الوضع الإقتصادي الحالي.
“جمعية المستهلك”
رئيس جمعيّة المستهلك زهير برّو يؤكّد، أنّ الجمعية لاحظت هذه النقلة للمستهلك من إستهلاك ما هو جديد الى ما هو قديم، والاستعادة عنها بتعزيز قطاع التصليحات الإلكترونية والكهربائية وتدوير كلّ المواد الممكن إعادة تصنيعها.
وقال برّو لـ “الجمهورية”: «هذه الظاهرة معروفة في الدول التي يتضرر إقتصادها، حين تصبح العملة الصعبة نادرة لديها، فينعكس ذلك صعوبة في الإستيراد، ويتّم حينها اللّجوء الى التصليحات»، ويوضح: «في لبنان ومع تراجع نسبة الإستيراد الى أكثر من 70% على الأقل، بات البديل حكماً التصليحات”. ويشير الى أنّ هذا “الموضوع سيف ذو حدّين، فمن جهة تبرز مخاطر رئيسية في قطاع صيانة السيارات، ما ينعكس خطراً على السلامة المرورية ويرفع من نسبة الحوادث، وهو ما ستظهره الأشهر المقبلة. كذلك، في قطاع الغذاء، حيث سيؤدّي غلاء الأسعار الى عدم قدرة المستهلك على شراء المواد الغذائية، ما يعني تكديسها في المخازن والمستودعات، وقد يؤدي الى تسمّمات غذائية، خصوصاً في ظل الرقابة التامة للدولة”.