كتب ألان سركيس في “نداء الوطن”:
يتفق علماء السياسة ومنظروها على أن الدول الكبرى تعمل وفق مصالحها ولا تهمها الشعوب، خصوصاً تلك المتواجدة في العالم الثالث، وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الإمبراطوريات والدول الكبرى مثل الرومان والبيزنطيين والعثمانيين والفرنسيين والبريطانيين، فإن الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة التي تحكم العالم وتعمل وفق أجندتها الخاصة.
معظم الإحتلالات التي مرّت على لبنان تركت آثارها وبقي فريق حليف أو ربما قريب لها، فعلى سبيل المثال هناك فريق يحلم باسترجاع زمن السلطنة العثمانية وفريق آخر يحن إلى الإنتداب الفرنسي، وفريق لا يزال على علاقة تحالف وطيدة مع نظام الإحتلال السوري، بينما العلاقة مختلفة تماماً بين المكونات اللبنانية وواشنطن، إذ إن تعامل الأخيرة مع لبنان ليس مبنياً على أساس ديني أو عرقي أو سياسي أو قومي بل وفق المصالح.
إنطلقت العلاقات اللبنانية – الأميركية بعد غياب العصرين البريطاني والفرنسي خصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ودخول العالم مرحلة صراع القطبين، أي الولايات المتحدة الاميركية والإتحاد السوفياتي، فالرئيس كميل شمعون إختار آنذاك التحالف مع واشنطن وكان من أحد أهم مؤسسي “حلف بغداد” المناوئ للشيوعية، وعلى رغم موجة الإزدهار التي عاشها لبنان والتي يحن لها في أوقاتنا هذه، ومن ثم نزول “المارينز” إلى شواطئ بيروت بعد قيام الثورة المدعومة من الرئيس جمال عبد الناصر، لم يستطع شمعون تجديد ولايته الرئاسية، فانتخب الرئيس فؤاد شهاب حليف الناصرية، وبذلك تكون واشنطن قد سجّلت نصف خسارة حينها.
في الفترة الشهابية، حافظ لبنان على علاقاته الطيبة مع واشنطن، لكن إنفلاش العمل الفدائي الفلسطيني بعد نكسة 1967 وضع العهد الشهابي أمام إستحقاقات مهمة، خصوصاً أن أمن إسرائيل هو من أهم أولويات أميركا، فكان “اتفاق القاهرة” الشهير الذي شرّع العمل الفدائي الفلسطيني، ما فتح نار جهنم على لبنان وكان من أحد أهم أسباب الحرب اللبنانية.
بعد هزيمة العرب الثالثة عام 1973، إرتفع منسوب الهجمات الفلسطينية على إسرائيل، وسط اضمحلال الدولة اللبنانية وعدم قدرة الجيش على التحرّك لضبط الامور، فكان أن وقعت الحرب بين قسم من اللبنانيين والفلسطينين في 13 نيسان 1975، في وقت يُقال إنّ واشنطن أعطت لبنان للرئيس حافظ الأسد مقابل تخلي الأخير عن الجولان فدخل جيشه بينما إحتلت إسرائيل الجنوب.
وقعت الحرب اللبنانية في ظل التنافس والحروب بالواسطة بين المحورين الشرقي والغربي، وعلى عكس ما يظن البعض فان واشنطن لم تقف مع المكون المسيحي اليميني، بل كانت تريد توطين الفلسطينيين، وترحيل المسيحيين، لكن المقاومة المسيحية بدّلت الموازين بعد نجاحها في تحرير المناطق المسيحية من الوجود العسكري الفلسطيني.
العام 1983 كان كارثياً على الوجود الأميركي في لبنان، حيث تمّ تفجير مركز “المارينز” والسفارة الأميركية، وبالتالي، إنسحبت أميركا عسكرياً من لبنان وسط صعود نجم “حزب الله” المدعوم من إيران، من ثمّ أهدت واشنطن لبنان مجدداً لحافظ الاسد بعد إرساله فرقة من جيشه للقتال إلى جانب التحالف الدولي لإخراج الرئيس العراقي صدّام حسين من الكويت وبذلك غضّت النظر عن تطبيق “إتفاق الطائف”.
بعد حصول زلزال إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري أصرّ الرئيس الأميركي جورج بوش على إخراج سوريا من لبنان وفعلها، وظن الجميع أن بلد الأرز بات من الأولويات، لتكن المفاجأة بوقوف أميركا موقف المتفرّج على اجتياح “حزب الله” للعاصمة بيروت والجبل في “7 أيار” 2008، وتركها من تدّعي أنهم حلفاؤها لوحدهم في مواجهة حزب مسلح مدعوم من إيران.
وفي العام 2012 دخل “حزب الله” الحرب إلى جانب النظام السوري بغض نظر أميركي وساهم في إنقاذه وذلك بعد توقيع الإتفاق النووي مع إيران، وبات “الحزب”، الذي يمسك السياسة اللبنانية، لاعباً إقليمياً، إلى أن أتى الرئيس دونالد ترامب عام 2016 وأراد “قصقصة” أجنحة إيران في المنطقة.
هذه المحطات العريضة في مسيرة العلاقات اللبنانية – الأميركية تدفع إلى الإستنتاج أن من لا يقف في صفّ العداء ضد واشنطن تسير أموره إقتصادياً مثلما حصل في عهد الرئيس شمعون، لكن في المقابل على الشريك أن يكون قوياً لأن واشنطن لا تحب الضعفاء.
في المقابل فإنّ واشنطن تنفذ أجندتها وفقاً لسياستها لذلك على لبنان أن يكون يقظاً لهذه النقطة، خصوصاً ان الملف اللبناني يدخل ضمن ملفات المنطقة.
ومن جهة أخرى، العداء لواشنطن من أجل مصالح إقليمية لا تمت إلى صلة بالمصالح اللبنانية سيكون ثمنه مرتفعاً، والدليل هو ما نعيشه اليوم من اختناق إقتصادي وتجفيف مصادر الدولار بسبب أخذ “حزب الله” لبنان رهينة واستعماله ورقة في يد إيران، في وقت تدخل واشنطن في معركة مع طهران.
وأمام كل ما يحصل يبقى على حكّام لبنان العمل وفق مصالح الشعب اللبناني وليس وفق اجندات خارجية لأن الشعب وصل إلى خط الفقر وكفر من سيطرة الدويلة واضمحلال الدولة، والإستفادة من التطورات الخارجية طريق مهم للوصول الى الخلاص لأن مشكلة لبنان سياسية وإقتصادية في آن، فهل يعود عصر البحبوحة كما كان سابقاً عندما كانت البلاد حليفة واشنطن أو سيبقى لبنان رهينة المحور الإيراني؟