كتبت زيزي إسطفان في صحيفة نداء الوطن:
لا تكتمل السُفرة من دونه ولا تختتم وجبة غداء إلا ببضع حبات منه تشكل مسك الختام، إنه الزيتون ملك الطاولة وعمود البيت. في ما مضى كان رمزاً للتواضع، فمن تَعِش على الخبزة والزيتونة كانت عروساً هنيّة تتحمل مع زوجها عثرات الدهر وترضى بالقليل. لكنه كان ايضاً رمزاً للاكتفاء والعيش الرغيد، فالزيت عمار البيت وفيه يقال “متى تواجد مع القمح في البيت وقفت أنا وغنيت”. سقى الله أيام الخير التي كان فيها “غير شكل الزيتون”.
مهما تبدلت الأيام وتقهقرت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية يبقى لموسم الزيتون رهجته ويبقى اللبنانيون على موعد سنوي مع موسم الزيت الذي لا يرضون عنه بديلاً. وكلما التقى إثنان كان سعر تنكة الزيت ثالثهما، سعر بات بالنسبة للكثير من العائلات خارج متناول اليد، لكنه بالنسبة للمصدّرين نعمة أعادت الأمل إليهم بإحياء معاصرهم ومصانعهم وإدخال العملة الأجنبية العزيزة الى لبنان. حالة الزيت اليوم وإن تكن مأسوية على جيوب المواطن إلا أنها في أفضل ايامها بالنسبة للمزارع والمصدر.
ويروي لـ”نداء الوطن” السيد وسام مسلم صاحب شركة Msallem Food Tech للزيت والكبيس، أن ما يفوق 70% من الزيت اللبناني يصدر الى الخارج تحديداً الى الخليج وأميركا وأستراليا. وهذه النسبة شهدت ارتفاعاً هائلاً مقارنة مع السنوات الماضية، فالزيت اللبناني بات اليوم منخفض السعر نسبة للخارج وصار قادراً على منافسة الزيت الإسباني والإيطالي واليوناني بالأسعار لا سيما انه أفضلها نوعية ومذاقاً.
وسعر الزيت عالمياً محدد ومعروف فهو يقارب 40 الى 45$ للتنكة الواحدة سعة 16 كغ. سابقاً كان سعر تنكة الزيت اللبنانية يقارب 100$ اما اليوم ومع فارق العملة فقد قارب السعر العالمي ودخل سوق المنافسة، وهذا ما أنقذ المزارع اللبناني ومصانع وشركات الزيت التي سدّ في وجهها السوق اللبناني. فالسوق الخارجي سوق ضخم وثابت يؤمن مدخولاً كبيراً يحتاجه الاقتصاد اللبناني بشدة، لخلق توازن بين الدولار والعملة اللبنانية وتقويم ميزان المدفوعات في الدولة بعض الشيء.
أما حجم السوق اللبناني فإلى تراجع، وفق مسلم، ففي حين كانت كمية الزيت المنتج بمعظمها تصرف في لبنان ويصدر منها القليل انقلبت الحال اليوم، وبعد ان كانوا يبيعون اسبوعياً من 400 الى 500 تنكة غالبيتها للمطاعم، تراجعت أعداد المطاعم بشكل مأسوي ولم تعد تستوعب اكثر من 30 تنكة اسبوعياً. أما اللبنانيون الذين كانت مؤونتهم بضع تنكات من الزيت فهم اليوم غير قادرين على شرائها بـ500,000 ليرة، لا بل انتشر بيع قناني الزيت سعة 250 مل وكأن “القدر” يقلّص احلام اللبنانيين على كافة الصعد، ويعلبها في زجاجات صغيرة لم تكن تكفي سابقاً صحن اللبنة.
قد يقول البعض فلننتقل الى الزيت النباتي، لكن المفاجأة ان اسعار هذا الأخير ارتفعت بدورها بشكل جنوني يفوق نسبة ارتفاع زيت الزيتون بمرات، وذلك لأن معظمه مستورد فيما شجر الزيتون محلي.
من جهته يشهد الزيتون أيضاً أزمة، فقد ارتفع سعره محلياً بشكل كبير وضعف سوقه، وبات القسم الأكبر منه الخاضع للمعايير العالمية يصدّر الى الخارج مع قدرة قوية على المنافسة. أما استيراد الزيتون فلم يعد وارداً. ولكن ما سبب ارتفاع سعر منتج محلي، اشجاره مزروعة منذ عشرات السنين؟ صحيح ان الأشجار قديمة لكن كل ما يحيط بالزراعة عامة ارتفعت اسعاره من مواد كيميائية ومازوت للجرارات وغيره. ولكن ما يدعو الى التفاؤل، عدا التصدير، فهو عودة اللبنانيين الى الاهتمام ببساتينهم وأشجارالزيتون المهملة، وقد بدأ هذا الاهتمام يعطي نتائجه زيادةً في المحصول إلا ان الأشجار تحتاج الى سنتين من العناية حتى تنتج كامل طاقتها.
قطاف الزيتون بالعونة
بدءاً من أواسط أيلول ينطلق رسمياً موسم قطاف الزيتون وتعلن انطلاقته الشتوة الأولى التي قد تتأخر حتى منتصف تشرين الأول او أواخره كحد أقصى. وقد يقطف البعض زيتونه قبل تلك الشتوة في حال تأخرت، ولكن العارفين لا ينصحون بذلك فالزيتون يجب أن يتشبّع بالماء حتى تكبر حبوبه وهو يتشرّب الماء من أوراقه، لذا كلما ازدادت كمية الأمطار ازداد امتلاء حباته. وقطاف الزيتون في لبنان الذي دخلته الآلات الرجراجة لم يلغِ الطريقة التقليدية التي عرفها الأجداد واجدادهم من قبلهم، أي القطاف اليدوي وبواسطة عصا للأغصان العالية.
الموسم هذه السنة خفيف عكس السنة الماضية، وهو أمر طبيعي يعرفه كل المهتمين بأمر الثمرة المباركة. ويختلف حمل الشجرة وفق حجمها ويتراوح بين 10 و25 كيلو أو أكثر للشجرة الواحدة، والمعدل هذا العام لم يتجاوز 20 كغ للشجرة. وكلما تراكمت كمية من الزيتون المقطوف تعادل 200 كلغ تقريباً… الى المعصرة سرّ.
شربل ووسيم شابان إلتقينا بهما في احد بساتين الزيتون الساحلية يقومان بالقطاف منذ ساعات الصباح الأولى. نسألهما لمَ هما مهتمّان بضمان بستان الزيتون؟ هل لا تزال هذه تجارة رابحة؟ بالطبع، يجيب وسيم، لاسيما وأن ارتفاع أسعار الزيت سنوي وهذه السنة وصل الى مستوى قياسي بلغ 500,000 ليرة للتنكة الواحدة، في حين الا حاجة لاستثمار كبير للاستفادة من اشجار مزروعة منذ عشرات السنين وقطافها لا يحتاج الى يد عاملة كثيرة. وحدها كلفة العصر ارتفعت. لكنهما يؤكدان أن ليس الربح وحده ما يبغيانه، بل الأولوية عندهما تأمين مؤونة العائلة وما يتفرع منها من بيوت من الزيت والزيتون.
كم كيلو زيتون نحتاج للحصول على تنكة زيت؟ يختلف الأمر بين الزيتون البعل والزيتون المروي، يجيب شربل. فالأخير حباته مشبعة بالماء وعصرها يعطي كمية أقل من الزيت وتُفصل عنها كمية كبيرة من المياه، اما البعل فهو “مشحم” أي غني باللب الذي يعصر كمية أكبر من الزيت، ولا يختلف الأمر بين زيتون أسود أو أخضر. عموماً كل 90 الى 100 كغ من الزيتون تعطي 20 ليتراً من الزيت او على الأصح 16 كلغ منه.
رغم تعب القطاف غالباً ما يتحول الى حلقة للضحك والمرح تعيد الى الأذهان العونة اللبنانية المعروفة، وتحفظ التقاليد المتوارثة التي تردد المثل القائل: “الزيتون زيتُه طيّب بس لقاطُه بشيّب…”.
منطقة المنصورية المتنية معروفة بمعاصر الزيتون منذ عشرات وعشرات السنين، فالمنطقة السكنية المكتظة اليوم كانت تلالها ومنحدراتها في ما مضى محاطة ببساتين الزيتون، وكان لا بد من إنشاء المعاصر لتلبية حاجة سكانها وسكان المناطق القريبة لعصر زيتونهم. اليوم لا تزال معصرة انطوان الحاج في وسط السوق القديم تتحدى الحداثة وزحمة الناس، هنا لا شيء تغير وكأن الزمن قد توقف: رائحة الزيت ما زالت تفوح على بعد عشرات الأمتار في الشارع، والعجلات الحجرية الكبيرة تدور في الجرن نفسه بلا كلل، ومعلم طوني “الخلقان في المصلحة” على حد قوله متربع على كرسيه يراقب حركة الجميع ويتدخل عند الحاجة.
بدءاً من أوائل أيلول يبدأ العمل في المعصرة حتى اوائل كانون الأول وذلك وفق نضج الزيتون، فالمروي منه ينضج قبل البعل الذي ينتظر الشتوة الأولى والساحلي قبل الجبلي. تنطلق العملية بفرز حبات الزيتون عن الورق ومن ثم وزنها ونقلها تحت الحجرين الدائريين الكبيرين، اللذين يدوران ببطء ليطحنا حبات الزيتون ويحولانها الى مهروس، تجمع كمية منه وتوضع على المكبس لتستخرج منها عصارة هي مزيج من الزيت والماء. اما المادة الجافة التي تبقى في المكبس وتعرف باسم الجفت فهي تنقل على شكل مربعات الى الخارج في انتظار أن يأتي من يشتريها ويحولها الى مادة للتدفئة هي بالعامية “الدُقّ”.
تخزّن العصارة في أجران مربعة ثم تنتقل الى الفرازة التي تفصل الزيت عن الماء. وفي ختام المسار الذي يحتاج الى ساعة كاملة يخرج الزيت الخضير الصافي وتركد المياه مشكِّلة الزيبار الذي يُطلق مع مياه الصرف ليشكل واحدة من المشاكل البيئية الحقيقية في لبنان. ويعصر خلال الموسم من 50 الى 60 طناً من الزيتون في عملية تقليدية تتكرر كل عام.
بينما نحن في المعصرة إذا بإحدى السيدات قد جلبت كيساً مملوءاً بالزيتون لرصّه على ماكينة خاصة تقوم بالمهمة بثوان، في حين كان الأمر سيستغرقها في البيت ساعات مع حجر او ” زلطة” الرصّ الكبيرة (حجر خاص) والفوطة الملطخة بالزيت. لكن ما كسبته بالوقت خسرته بالفولكلور والتقاليد البيتية الجميلة التي كادت تنتهي وتنهي معها عصر”رصّ الزيتونة رصّة”.
معلم طوني الذي تخاوى مع كل تفصيل من تفاصيل معصرته يرفض رفضاً تاماً تحويلها الى معصرة حديثة تعمل على الماكينات، وكذلك يرفض ابنه الشاب ميشال الأمر، فالمعصرة التقليدية تراث لا يجب التفريط به ومن اشد حسناتها أنها تعصر الزيت على البارد، ما يجعله أشدّ كثافة وألذّ طعماً، أما المعصرة العصرية الأوتوماتيك فهي تعصره على الساخن ويكون اشد ميوعة وأقل نكهة، لكن بعض القيمين على معاصر اوتوماتيكية نفوا لنا هذا الأمر. الرجلان يعترفان أن عملهما يحتاج الى جهد وتعب ويد عاملة لتنفذ كل المراحل، فيما المعصرة الحديثة يدخل إليها الزيتون ويخرج زيتاً نقياً من دون مراحل.
من هنا تختلف تسعيرة عصر الزيتون بين معصرة وأخرى، فمعاصر الحجر قد تصل اسعارها الى 30,000 ليرة للتنكة الواحدة فيما المعصرة الممكننة، يمكنها أن تخفض من اسعارها وقد تقوم بعروضات خاصة تصل الى 20,000 ليرة للتنكة الواحدة لتشجيع المزارعين، نظراً الى حاجتها لوقت أقل وعدد عمال أقل. لكن يبدو أن كلفة عصر التنكة قد وصلت في بعض المناطق إلى 50 ألفاً أو سبعين، ناهيك عن ثمن “الفراغة”.
في الصراع بين الحديث والتراثي “ما حدا بيقول عن زيته عكر”، على البارد او السخن يبقى للزيت مكانته. ولكن هل سيتمكن اللبناني من دفع 500,000 ليرة ثمن تنكة الزيت هذا العام، ام سيترحم على مقولة “شراب زيت واضرب الحيط”؟