كتب جوني منير في “الجمهورية”:
ما من شك في أنّ الانتخابات الاميركية هي الأهم على الاطلاق منذ انتخابات العام 1932، التي أوصلت فرانكلين روزفلت الى الرئاسة الاميركية. فالنسبة المرتفعة للمشاركة الشعبية، والتي لم يؤثر عليها الانتشار الواسع لفيروس «كورونا» وسط انقسام عمودي حاد داخل البلاد، جعلت مجلة «فورين بوليسي» تقول في عنوانها العريض انّ هذه الانتخابات ترتقي الى صفة «التاريخية».
ولأنها كذلك انشغلَ العالم، ولا سيما منه الشرق الاوسط، بمتابعة تفاصيل الحملات الانتخابية، وخصوصاً اليوم الانتخابي الاميركي الطويل.
هذا رغم انّ السياسة الخارجية لم تكن ملفاً اساسياً في حملات المتنافسين، لا بل انّ الاولويات التي اصطفّ وراءها الناخبون جاءت وفق الترتيب التالي:
1 – الاقتصاد، وهي الورقة الاقوى في يد الرئيس دونالد ترامب رغم الآثار السلبية لـ»كوفيد 19» عليه.
2 – «كورونا» وطريقة التعامل معها، والذي اتهم ترامب بأنه تعامَل معها بخفّة، فيما سعى خصمه المرشح الديموقراطي جو بايدن لاستغلال هذا الملف لمصلحته، ما أدّى الى اجتذابه الشريحة التي تزيد عن عمر الـ 65 عاماً. وأهمية هذه الشريحة العمرية انها تشارك عادة في الانتخابات بنسَب مرتفعة.
3 – العدالة الاجتماعية، والتي رفع لواءها الاميركيون من اصول افريقية الى جانب اميركيين من ذوي البشرية البيضاء، وقد أخذ هذا الجانب حيّزاً كبيراً مع موت جورج فلويد واندلاع احتجاجات واعمال عنف لأسابيع عدة.
4 – الرعاية الصحية، والتي كان قد أقرّها الرئيس السابق باراك اوباما من خلال ما عُرف بـ»أوباما كير»، وألغاها ترامب.
5 – الجريمة وارتفاع معدلاتها، واستتباعاً ملف بيع السلاح الفردي للافراد الاميركيين، والذي حرص ترامب على عدم المَسّ به وسط كلام عن نفوذ قوي لتجّار الاسلحة ومصانعها.
6 – السياسة الخارجية الاميركية، ما جعلها في مرتبة متدنيّة من اهتمامات الاميركيين. وفي العادة يكون اهتمام الناخبين الاميركيين لشؤونهم الداخلية، وفي طليعتها الاقتصاد، وهو ما لم تَشذّ عنه هذه الانتخابات ايضاً، لكنّ المفارقة انّ ترامب وضع ثقله السياسي الى جانب اسرائيل، وتحديداً الى جانب رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. فصَاغَ مع صهره جاريد كوشنير صفقة القرن، وعمل على الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وكذلك سارَعَ الى نقض الاتفاق النووي الذي أنجزه سلفه باراك اوباما، في خطوة نادرة لا تنسجم مع مبدأ الاستمرارية المعمول به عندما يجري انتخاب سلطة جديدة.
وعلى رغم من ذلك، فإن مركز «بيو» الاميركي للابحاث سجّل انحياز 70 % من الناخبين اليهود الاميركيين الى جانب المرشح الديموقراطي جو بايدن. ورغم انّ هؤلاء يشكّلون ما يُناهز الـ2 في المئة فقط من الاميركيين، ولكنهم مُمثّلون بـ 36 عنصراً في الكونغرس الاميركي، 9 منهم في مجلس الشيوخ هم جميعاً ديموقراطيون و27 في مجلس النواب، 2 منهم فقط ينتميان الى الحزب الجمهوري.
ورغم انّ السياسة الخارجية كانت هامشية في الحملات الانتخابية، الّا انها ستكون في صلب سياسة الادارة الاميركية، خصوصاً في ملفات الشرق الاوسط أيّاً يكن ساكن البيت الابيض.
بايدن قالها صراحة عن العودة الى الاتفاق النووي مع ايران ولو انطلاقاً من النقاط التي كسبها ترامب في نزاعه معها، وربما بعد فترة من الضغوط الاضافية على طهران لينزع عنه صفة الضعف او التردد التي اتّهمه بها ترامب. اما في حال عودة ترامب، فصحيح انه هاجم مرات عدة بايدن لدوره في الاتفاق النووي، الّا انه رَدّد غير مرة، خلال لقاءاته الانتخابية الحاشدة، أنه عندما سيفوز ستكون اول مكالمة سيتلقّاها من ايران ومن الرئيس الايراني. وتابع قائلاً: «هم يريدون عقد صفقة».
طبعاً، كان ترامب يريد ان يقول انّ الظروف نضجت في ايران للذهاب الى اعادة صياغة اتفاق نووي جديد يشمل الملف النووي، ومعه إضافات تُطاوِل الصواريخ البالستية والنفوذ الايراني في المنطقة.
صحيح انّ الولايات المتحدة الاميركية ستدخل فترة من عدم الاتزان الداخلي بسبب التوقعات حول الطعون الجاري تحضيرها حول الانتخابات، واحتمال أن يَترافق ذلك مع بعض الصدامات الداخلية، اضافة الى الانشغال بوضع برامج للتخفيف من الانقسام الداخلي الحاد الحاصل أيّاً يكن الفائز في الانتخابات، الّا انّ ذلك لن يعني الابتعاد نهائياً عن المسرح العالمي، لا بل على العكس، فإنّ مؤسسات الدولة الاميركية ما تزال تعمل على ترتيب الساحات وفق الخطوط العريضة للاستراتيجية الاميركية، والتي عنوانها مواجهة الصين واحتواء تَمدّدها على المسرح العالمي، والشرق الاوسط هو إحداها.
فخلال الاسابيع والاشهر المقبلة ستستمر واشنطن في سياسة العقوبات تحضيراً للمرحلة اللاحقة. لكنّ الاهم ما تناقلته أوساط اعلامية عن بدء وزارة الدفاع الاميركية تطبيق قرار بتغيير الملحقين العسكريين مع خَفض رُتَبهم في عدد من السفارات الاميركية في دول عربية اساسية بعيداً عن الاعلام. ووفق ما جرى تناقله، فإنّ هذا المشروع يشمل 8 دول هي: السعودية ومصر وباكستان والامارات والكويت والعراق وتركيا.
والمعروف أنّ الملحقين العسكريين الاميركيين يضطلعون في العادة بأدوار عدة بين السياسة والعسكر والاستخبارات، وبخلاف الانطباع الاولي بأنّ خَفض الرُتَب يعني تراجع الاهتمام، فإنّ ديبلوماسيين وضعوا الصورة في إطار مختلف تماماً، وأنه من اجل تفعيل عملهم وزيادة حركتهم لا العكس، وانّ هذه الخطوة تدخل في إطار خطة مواجهة التمدد الصيني وتسبق العمليات الرئيسية التي تتناسَب مع المرحلة المقبلة، وانّ منطقة الشرق الاوسط ستشهد مزيداً من الاهتمام الاميركي لا العكس، خصوصاً انّ المنطقة باتت تخضع لتوازنات المحاور الثلاث: المحور الاسرائيلي ـ الخليجي، والمحور الايراني، والمحور التركي. والتي تؤسّس لنزاعات جديدة تختلف عن تلك التي تتمحور حولها، وبالتالي فإنّ رسم خريطة النفوذ في المنطقة سيستند على هذه الاسس، لكن في انتظار جلاء الصورة في واشنطن والأهم تَبيان الطريق الصعب بين الاميركيين والايرانيين.