كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
إطَّلعت «الجمهورية» على نسخةٍ من مُقترَح مشروع أعدَّته الدوائر المعنيَّة في البنك الدولي، لتقديم قرضٍ إلى لبنان، بقيمةٍ تُراوِح ما بين 1.8 مليار دولار ومليارين، تحت عنوان مساعدته على مواجهة الأزمة، ريثما يتمّ الإفراج عن الـ11 مليار دولار المقرَّرة في مؤتمر «سيدر». وتجري محاولة «تسويق» هذا المقترَح عبر العديد من الأقنية الديبلوماسية لاستمزاج الآراء تجاهه. لكن هذه الخطوة التي فاجأت الكثير من الجهات الدولية، قوبلت بتساؤلاتٍ عن خلفياتها الحقيقية.
النصُّ الذي أُتيحَ الاطّلاع على نسخةٍ منه، تحمل تاريخ 8 تشرين الأول الفائت، هو في الواقع «مُسَوَّدة مقترح» (concept note) تقع في 8 صفحات وربع الصفحة، وتتألف من مقدمة و3 أقسام
المقترَح يحمل اسم 3RF، اختصاراً لعنوان Lebanon Financing Facility (LFF) for Reform, Recovery and Reconstruction. ويجري الآن إقناع دول وجهات دولية بالمساهمة في توفير المبلغ المطلوب، كالاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وحكومات الدول المانحة عموماً.
في القسم الأول، يشرح المقترَح حيثيات الدعم: لبنان منكوبٌ مالياً واقتصادياً، وجاء انفجار المرفأ ليزيد وضعه سوءاً، وكذلك «الكورونا»… وبات 45 % من اللبنانيين تحت خطّ الفقر. وأزمة تأليف الحكومة قد تطول، ما يفرض تدخّل البنك للمساعدة. ويتحدَّث المقترَح عن حاجات لبنان في مجال النقل، كأنموذج لتبرير طلب هذه التسهيلات.
في القسم الثاني، مبرِّراتُ المساعدة المطلوبة: إنّها «جِسرٌ لتجاوز الفجوة التمويلية» إلى أن يحصل لبنان على أموال «سيدر». وهي تتوخّى «زيادة التنسيق مع مؤسسات التمويل الدولي»، و»دعم الشركات الخاصة المتوسطة والصغيرة»، و«تحسين المشاركة والمحاسبة والشفافية»، أي إنّها تتمة للمساعدات التي سبق أن قدّمها البنك للبنان، ومنها مبلغ الـ200 مليون دولار المخصَّصة لدعم الحماية الاجتماعية.
في القسم الثالث، شروحات عن الوظائف التي سيؤدّيها تنفيذ هذا المقترَح: تجهيز الأرضية لإعادة الإعمار على المدى المتوسط، وبناء المؤسسات والتنمية، وإعادة «الانتعاش الاجتماعي- الاقتصادي، ودعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة والإصلاح وإعادة البناء.
وإلى أن يصبح ممكناً تقديم الدعم عبر الدولة، سيتمّ تمرير المساعدات إلى لبنان من خلال الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية، التي لا تتوخّى الربح NGO. ولكن، يدعو المُقترَح إلى التشاور مع الدولة اللبنانية للبحث في كيفية تنفيذ القرض، لجهة تعاون مؤسسات السلطتين التنفيذية والتشريعية لإقرار القوانين الخاصة بتمريره.
المطَّلعون يقولون، إنّ ردود الفعل على خطوة البنك الدولي، في الأوساط الديبلوماسية المعنيّة، لم تكن إيجابية إجمالاً. فقد قوبِلت بأسئلة عن الغاية الحقيقية الكامنة وراء هذه الخطوة المفاجئة، خصوصاً أنّها تعاكس الموقف الدولي المتشدّد إزاء الطبقة السياسية الحالية، والذي يتجنَّب منحها أي أموالٍ جديدة، لئلا تتعرّض للنهب، وتضاف إلى عشراتِ المليارات أو مئاتِ المليارات من الدولارات التي هدرتها هذه الطبقة، ضمن منظومة الفساد التي ترعاها منذ عقود.
ردُّ الفعل جاء مشكِّكاً بخلفيات القرار. وفي تقدير كثيرين، أنّ تسليم المساعدات اليوم، ولو إلى الجمعيات غير الحكومية، سيكون من الناحية الواقعية طريقةً ملتويةً لتمويل الطبقة السياسية نفسها. فهذه الطبقة اعتادت أن تختبئ وراء أسماء الجمعيات الوهمية التي منحتها التراخيص، والتي تتحوَّل مساعداتها في أشكال مختلفة إلى جيوب السياسيين وزوجاتِهم وأولادِهم وأنسبائهم ومحاسيبهم.
وكذلك، إنّ «المؤسسات المتوسطة والصغيرة» التي تشملها المساعدات هي نفسها التي يملكها «المحظيون» و»المحظوظون» فقط، أي تلك التي يملكها النافذون أو يشاركون في ملكيتها، هم أو المحاسيب. وعلى مدى سنوات طويلة، كانت هناك نماذج فاقعة في هذا المجال.
لذلك، ليس الحل بالترقيع ومدِّ الطبقة السياسية بالمال لكي تنتعش وتكرّس تسلّطها وفسادها، كما يحاول البنك الدولي أن يفعل، بل بإجبار هذه الطبقة على الرضوخ لمتطلبات الإصلاح وفكّ قبضتها عن البلد، الذي أوصلته بفسادها إلى الانهيار.
ويسأل بعض المعنيين: هل صحيحٌ ما يتردَّد عن أنّ هذا المقترَح، المعاكس لتوجّهات صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، يأتي انعكاساً لعلاقة «مِن تحت الطاولة» بين بعض دوائر البنك الدولي وبعض أركان الطاقم السياسي اللبناني، عمرها عشرات السنين، وتكرَّست بعقود وتلزيمات وقروض لا تخضع لقواعد الشفافية، كما هو الحال في ملف سدّ بسري، الذي عمد البنك إلى تجميده تحت ضغط الشارع؟
ففي الكواليس، هناك همسٌ مزمن عن الاشتباه بوجود مصالح متبادلة بين بعض موظفي البنك الدولي وبعض المسؤولين والسياسيين في لبنان. كما أنّ البنك الدولي، في النهاية، هو مجرّد بنك، كأي مصرف تجاري، أي إنّه شركة تتوخّى الربح. وعادةً، ترتكز المنافسة بين موظفي المصارف إلى مهارة كل منهم في توفير أكبر مردود للبنك من العقود التي يتولّى تنفيذها. وربما لا تكون الشفافية ومصالح الزبائن شأناً مُهمّاً في هذه الحال.
وثمة مَن يعتقد أنّ طبقة السياسيين في لبنان لطالما استثمرت هذه المسألة في تعاطيها مع البنك الدولي وموظفيه. ولذلك، لم يكن هدْرُ نصف مليار دولار لبناء سدّ فاشل في بسري مسألة ذات شأن. وعلى العكس، إنّ تضخيم حجم العقود من شأنه أن يقدِّم للموظف الذي يتولّى إنجازها أن يُكافأ بالترقيات. ويتردّد أن هذا ما حصل في ملف بسري.
ويلفت البعض إلى أنّ بعض موظفي البنك الدولي نجحوا في الاستمرار في مواقعهم، ومقاومة أي تغيير، سواء في المكاتب المركزية في واشنطن أو في المكاتب الإقليمية في عواصم العالم، بسبب براعتهم في إنجاز صفقات من هذا النوع.
ولكن، في الخلاصة، يتعاطى البنك الدولي مع نحو 220 دولة في العالم. وثمة من يخشى أن يتجاوب بعضها مع هذا المقترَح، ما يشكّل خرقاً للعقوبات الدولية وإنعاشاً لطبقة الفساد في لبنان. فهل هذه الخشية في محلّها؟
العالمون يقولون إنّ واشنطن تمتلك «الفيتو» الأقوى في البنك الدولي، وهي نفسها التي تفرض العقوبات على القوى النافذة في لبنان. ولذلك، لن يمرَّ المقترَح…
ولكن، إذا كانت هناك عناصر جديدة قد دخلت على المواقف الدولية، ومنها مثلاً دعم «حكومة الترقيع» بـ»تمويلٍ ترقيعي»، انتظاراً للحظة تنضج فيها الحلول الجدِّية. ففي هذه الحال، ستكون كل الاحتمالات واردة.