كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
وَقَع الرئيس بشّار الأسد عن قصد، في خطأ مبدئي قبل أن يكون حسابياً، عندما نسب أسباب الأزمة الاقتصادية السورية إلى احتجاز المصارف اللبنانية لودائع مواطنيه. وبغض النظر إن كانت المبالغ 10 أو 20 أو حتى 40 مليار دولار، فهي لن تشكل أي فرق للاقتصاد السوري المحاصر والمنهار، سواء كانت “محبوسة” أم “طليقة”.
تَحوُّل النظام في سوريا إلى إشتراكي بعد إنقلاب العام 1963 بقيادة حزب البعث، أخاف رؤوس الأموال، فهربت. وكغيرها من الفوائض المالية العربية لم تجد هذه الرساميل أفضل من النظام المصرفي اللبناني المتطوّر والذي يحمي السرية، لتستقر فيه، وتستفيد من خدماته المتنوعة. هذه المعادلة لم تغيّرها فترة الرخاء والإزدهار الصناعي التي شهدتها سوريا، ومحاولتها خلق نظام مصرفي حديث في وقت سابق، ولا فترة التدهور الإقتصادي منذ بداية الحرب عام 2011 وحتى 17 تشرين الأول 2019. ولم ينجح النظام إلا بالقوة والإكراه في إستعادة جزء من هذه الودائع قبل نحو عام.
الودائع لن تعود حتى لو استطاعت
تشير توقعات العديد من المصادر أن تكون معظم الأموال السورية المتبقية في المصارف اللبنانية تعود إلى سياسيين ورجال أعمال يدورون في فلك النظام. فهذه الفئة المحاصرة بالعقوبات والمشكوك بـ”نظافة” اموالها “لبدت على عكرها” ولم تتجرأ على تحريك ودائعها خوفاً من احتجازها. في حين “يُرجح أن تكون بقية المستثمرين السوريين المعارضين قد أخرجوا اموالهم من المصارف اللبنانية في فترات سابقة”، بحسب أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت ناصر ياسين. ولكن رغم قرب العدد المتبقي من المودعين السوريين من النظام، فانه “ليس بمقدورهم تحويل الاموال إلى سوريا حتى لو استطاعوا، وذلك لأسباب تقنية وإقتصادية”، يقول ياسين. “فالتحويلات المصرفية إلى نظام معاقب ممنوعة، وهي تهدد بوضع المصارف اللبنانية على لائحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وبالتالي إقفالها بشحطة قلم. كما أن رجال الأعمال السوريين لم يبدوا أي استعداد للتفريط بدولاراتهم، لتعويم نظام معاقب غارق في المشاكل والديون. ولولا صفقة “الدولار مقابل التبرئة من الفساد” التي عقدها النظام مع حوالى 70 رجل أعمال في أيلول 2019، لم يكن ليدخل مصرفه المركزي دولار واحد منهم”.
الودائع السورية تساهم بانطلاق الأزمة اللبنانية
المفارقة ان هذه الصفقة عُقدت قبل إقفال المصارف اللبنانية في 17 تشرين الأول وبدء التقنين في دفع الدولار. فـرجال النظام الذين أجبروا على جلب ما لا يقل عن 150 مليون دولار لكل واحد منهم لوقف انهيار العملة السورية وتثبيتها عند حدود 500 ليرة، ساهموا بتدهور الوضع النقدي في لبنان بشكل مباشر وليس العكس. فاخراج الودائع من لبنان بقيمة تقدر بأكثر من مليار دولار انعكست تدهوراً في سعر صرف الليرة اللبنانية، ولم تقدم أي فائدة للنظام السوري. حيث لم تلبث الليرة السورية أن ارتفعت إلى مستويات قياسية وصلت إلى حدود 4000 ليرة قبل ان تنخفض في السوق السوداء إلى 2500 ليرة. وعلى هذا الأساس لن يتجرأ أحد على نقل دولاراته ووضعها في رمال الأزمة السورية المتحركة حتى لو لم تكن هناك أزمة في لبنان. و”لا أمل برجوع دولار واحد إلى سوريا إلا في حال التغيير السياسي ووقف العقوبات وبدء الاصلاحات وإعادة الإعمار”، على حد قول ياسين.
“المركزي” يدعم الاستهلاك السوري
في الوقت الذي لا يمكن ان تتجاوز فيه الودائع السورية المتبقية في البنوك اللبنانية 6 مليارات دولار، بحسب بعض المصادر المصرفية، فان كلفة التهريب هذا العام من لبنان إلى سوريا بلغت نصف هذا المبلغ على أقل تقدير. وعليه يكون المصرف المركزي قد موّل الاستهلاك في سوريا بنحو 3 مليارات دولار منذ بداية العام، من أموال المودعين اللبنانيين والسوريين. فكلفة الدعم المقدرة شهرياً بحدود 700 مليون دولار يذهب منها بحسب مختلف التقديرات بين 40 و50 في المئة إلى سوريا على تهريب سلع كالنفط والقمح والدواء.
تكبير رقم الودائع السورية المحجوزة في المصارف اللبنانية إلى 42 مليار دولار، ما هو في الحقيقة إلا إدانة للنظام الاقتصادي السوري الفاقد لثقة أبنائه والعاجز عن تأمين فرص توظيف لرساميلهم، قبل أن يكون إتهاماً للبنان ومصارفه. وفي تضخيم الارقام إدانة أخرى تتمثل في أن هذه الأموال وضعت في لبنان للاستفادة من الفوائد الريعية الكبيرة مع العلم المسبق بارتفاع مستوى المخاطر على مثل هكذا توظيفات high return high risk. وبالتالي فان الملامة لا تلقى إلا على النظام السوري رغم كل الفوضى النقدية الحاصلة في لبنان.