كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
في العام 1861 عندما كانت الدول الكبرى بريطانيا والنمسا وإيطاليا وروسيا وبروسيا وفرنسا تضمن قيام نظام المتصرفية في لبنان في ظلّ حكم السلطنة العثمانية الضعيفة، كانت الولايات المتحدة الأميركية تذهب نحو حرب أهلية طاحنة بعد إعلان عدد من الولايات الإنفصال عن الإتحاد الفدرالي. في ذلك الوقت لم يكن لبنان ملفّاً من ملفّات الإدارة الأميركية ولكنّ هذا الواقع سيتبدّل تماماً مع بداية القرن العشرين، بغضّ النظر عمن يحكم العالم من البيت الأبيض.
ماذا سيتغيّر في لبنان والمنطقة إذا خسر الرئيس دونالد ترامب؟ وماذا سيحصل إذا فاز منافسه الديمقراطي جو بايدن؟ هل ستتوقّف العقوبات ضد إيران و”حزب الله” والنظام السوري؟ هل سيعيد بايدن إحياء الإتفاق النووي مع إيران؟ هل سيوقف تطبيق قانون “قيصر” ضد النظام السوري؟ وبالتالي هل تتبدّل السياسة الأميركية عندما يتغيّر الرئيس؟ الواقع أنه ومع ترقّب العالم كلّه من سيفوز في هذه الإنتخابات فإن الصحيح أن الرئيس يتغيّر ولكن سياسة العقوبات الأميركية مستمرة، (وآخر فصولها شمولها رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل).
زيارة إلى التاريخ
في تاريخ أميركا منذ الإستقلال في 4 تموز 1776 وانتخاب الرئيس الأوّل جورج واشنطن في العام 1789 حتى اليوم، تعاقب على البيت الأبيض 45 رئيساً للجمهورية الفدرالية وبقيت السياسة الأميركية واحدة، تتغيّر فيها بعض الوجوه ولكن خطّ سيرها معروف ومرسوم ولا خروج عليه. وهذا الأمر لن يتبدّل مع الرئيس السادس والأربعين.
كانت أميركا تعيش حروبها منعزلة عن العالم ولكنّ هذه الصورة ستتبدّل مع بداية القرن العشرين. استطاع الرئيس ابراهام لنكولن (1861-1865) إعادة توحيد بلاده بعد حروب استمرت نحو خمسة أعوام وأسفرت عن نحو 700 ألف قتيل. حقّق النصر ولكنّه قضى اغتيالاً ليبدأ بعده صعود قوّة الإمبراطورية التي تريد أن تحكم العالم.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كانت أميركا بعيدة وغير معنية. ولكنّها دخلت الحرب في نيسان 1917 بسبب تعرّض بواخر تابعة لها للقصف وانتصرت للعالم الحر والحلفاء. كان الرئيس وودرو ولسن (1913-1921) قد أعلن مبادئه الـ14 ومنها حقّ الشعوب في تقرير المصير، وعندما شارك في رسم خريطة العالم في مرحلة ما بعد الحرب ومعاهدة فرساي وتمّ تأسيس عصبة الأمم، كان لبنان يولد من جديد وكانت بداية التدخل الأميركي من خلال لجنة كينغ – كراين التي أرسلها إلى لبنان لتقصّي الحقائق ومعرفة حقيقة ما يريده الشعب اللبناني. لم تنضمّ أميركا إلى العصبة ولكن بعد الحرب العالمية الثانية ستتغيّر أمور كثيرة. بين روزفلت وستالين وتشرشل وبمشاركة من ديغول سوف يتمّ تقاسم النفوذ في العالم. واشنطن التي كانت غائبة عن القرار في لبنان ستعود بقوة بعد العام 1943 لتكون اللاعب الرئيسي فيه وفي المنطقة. ابتداء من العام 1952 ستحوّل واشنطن قنصليّتها إلى سفارة وسيكون لهذه السفارة حضور كبير في تقرير مصير لبنان والسياسة اللبنانية وربّما الوضع في الشرق الأوسط كلّه.
كان هاري ترومان الذي خلف روزفلت ديمقراطياً. أنهى الحرب العالمية الثانية بعدما أمر بإلقاء القنبلتين الذريّتين على اليابان. خلفه في البيت الأبيض في العام 1953 الرئيس دوايت إيزنهاور وكان جمهورياً. على عهده تمّ إنزال قوات المارينز في بيروت في العام 1958 تطبيقاً لمبدأ كان أعلنه ويتمحور حول دعم الدول المهددة من الشيوعية والإتحاد السوفياتي. هذا الصراع مع الشيوعية أخرج أميركا من عزلتها إلى مواجهة واسعة وعلى أساس هذه الإستراتيجية توسّع عمل المخابرات الأميركية ووزارة الخارجية، وأُقيمت القواعد العسكرية ورُكِّبت الأنظمة والأحلاف. وهذه الإستراتيجية الأميركية ثابتة في كل العهود وتتبدّل ضمن حدود ضيقة قياساً لشخصية الرئيس ولمصالح بلاده وليس لانتمائه الحزبي.
حرب في لبنان
منذ العام 1958 لم يحصل تدخّل أميركي كبير في لبنان إلا مع بداية الحرب في العام 1975. قبل هذا التاريخ كان الإهتمام الأميركي الأساسي منصبّاً على الوضع في المنطقة من حرب 1967 إلى حرب 1973 بين العرب وإسرائيل على الجبهات السورية والمصرية والأردنية. عندما هدأت الحرب على هذه الجبهات صار لبنان هو الجبهة الوحيدة المفتوحة. سعت واشنطن إلى اتفاقيات جديدة استكمالاً لاتّفاقات الهدنة التي حصلت بعد حرب 1948 فكانت هدنة 1974 بين سوريا وإسرائيل، والتي أدت إلى قيام منطقة منزوعة السلاح، وكانت اتفاقيّات سيناء بين مصر وإسرائيل لفك الإشتباك وتمّ نشر قوات دولية على حدود البلدين مع إسرائيل.
عندما اندلعت الحرب في لبنان كان في البيت الأبيض الرئيس جيرالد فورد الجمهوري الذي خلف الرئيس ريتشارد نيكسون بعد استقالته في العام 1974 بسبب فضيحة ووترغيت. على أيّامه تمّ إرسال السفير دين براون إلى لبنان وبدأت السياسة الأميركية لاحتواء نتائج الصراع فيه من دون أن يكون هناك قرار بإنهائه. ولكن نتيجة هذه الحرب لم تستطع أميركا أن تبقى بعيدة عن نتائجها وآثارها وكانت الضربة الأولى التي تلقتها اغتيال سفيرها فرنسيس ميلوي في بيروت في العام 1976. خلال عهد فورد تم دخول جيش النظام السوري إلى لبنان. قد لا يذكر كثيرون اسم هذا الرئيس الأميركي، ولكنّهم بالطبع لا يمكن أن ينسوا اسم وزير خارجية أميركا هنري كيسينجر الذي هندس هذا الدخول ورسم الخطوط الحمر للتدخّل السوري بين سوريا وإسرائيل، ومهّد بذلك لانتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية في لبنان.
لم تتبدّل السياسة الأميركة في لبنان بعد انتخاب الديمقراطي جيمي كارتر رئيساً في العام 1977. ذهب إلى تحقيق اتفاقية كامب دايفد بين مصر وإسرائيل بينما كان الجيش الإسرائيلي ينفذ اجتياحه الأول للبنان في آذار 1978، وينسحب بعد اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 425، وبينما كانت الحرب تعود إلى لبنان بعد ارتداد النظام السوري برئاسة حافظ الأسد على التسوية التي سهّلت دخول جيشه إلى لبنان، لتبدأ بعدها سلسلة معارك بين جيشه وبين “القوات اللبنانية” من حرب المئة يوم في الأشرفية إلى حرب زحلة وأزمة الصواريخ، التي أدت عمليّاً إلى أكبر تورّط أميركي ظاهر في لبنان، مع إرسال الرئيس الأميركي رونالد ريغن الجمهوري موفده الخاص إلى لبنان فيليب حبيب لمنع نشوب حرب بين سوريا وإسرائيل. ولكن ما حصل أن هذه الحرب نشبت في لبنان مع اجتياح الجيش الإسرائيلي في حزيران 1982 وصولًا إلى بيروت.
هندس فيليب حبيب 3 مسائل أساسية: خروج منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات من لبنان. وانسحاب الجيش السوري من بيروت إلى البقاع وانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. ولكن اعتباراً من هذا التاريخ سيصبح التورط الأميركي في أزمة لبنان مكلفاً. ومع ذلك لم تتبدّل الإستراتيجية الأميركية مع تبدّل الرؤساء. منذ ذلك التاريخ ستكون هناك مواجهة مع طرف أساسي وأكيد وواحد تقريباً هو نظام الثورة الإسلامية في إيران ومع “حزب الله” في لبنان. وهذا ما أدّى إلى تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة ثمّ في عوكر تباعاً في العام 1983 والعام 1984، وتفجير مقرّ قوات المارينز قرب المطار في العام 1983 وخطف الرهائن الأميركيين في لبنان وخطف الطائرات في الجو. وهذا ما جعل المواجهة مفتوحة مع إيران ومع “الحزب” وهي مستمرّة. وبالتالي لا يمكن أن تبدّل فيها أيّ إدارة وأيّ رئيس. والعكس هو الحاصل ذلك أنّ هذه المواجهة تحظى بشبه إجماع ليس في البيت الأبيض فحسب بل في الكونغرس أيضاً، وبين النواب والشيوخ الديمقراطيين والجمهوريين.
بين ترامب وأوباما وبوش
بعد العام 1988 كان للولايات المتحدة دور في رسم خريطة خروج لبنان من الحرب. لم ينجح ريتشارد مورفي في تأمين انتخاب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية. المواجهة مع العماد ميشال عون رئيساً للحكومة العسكرية بعد إعلانه حرب التحرير أدّت إلى أقفال السفارة في عوكر. ولكنّ الدور الأميركي كان واضحاً في الوصول إلى تسوية اتفاق الطائف وفي العودة إلى تسوية جديدة مع النظام السوري على حساب لبنان، بعد حرب عاصفة الصحراء في العام 1990 لطرد جيش الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت. هذه التسوية ستجعل الوصاية السورية على لبنان تمتد حتى العام 2005.
بيل كلينتون الديمقراطي الذي خلف جورج بوش الأب الجمهوري لم يبدّل في السياسة الأميركية وفي الواقع اللبناني. ذهب إلى تسوية أوسلو بين عرفات وإسرئيل في العام 1993 وإلى اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، وفشل في التوصل إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل. مع جورج بوش الإبن الجمهوري سيتغيّر الوضع في المنطقة والعالم. لو لم تحصل هجمات 11 أيلول 2001 في أميركا بعد انتخابه مباشرة ربما لما كانت واشنطن لتدخل حروباً كبيرة. من احتلال أفغانستان إلى احتلال العراق إلى دعم عملية التغيير في لبنان وصدور القرار 1559، الذي طلب خروج الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح “حزب الله”. بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 تمّ تنفيذ الشقّ المتعلّق بسحب الجيش السوري ويبقى الشقّ المتعلّق بسلاح “حزب الله”. الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ذهب إلى لملمة آثار حروب بوش وحاول أن يسوي الوضع مع إيران بالإتفاق النووي، ولم يكن تدخله حاسماً في الحرب الداخلية في سوريا. جاء بعده الرئيس الجمهوري دونالد ترامب ليعيد تحديد وجهة المواجهة مع إيران وسوريا و”حزب الله”. اللّافت في قرارات الحصار والعقوبات أنها تصدر بشبه إجماع أميركي. هذا النمط من التعاطي مع ملف لبنان لا يمكن أن يتغيّر بين ليلة وضحاها. ليست مسألة مزاج بل قضية استراتيجية تديرها مؤسسات ودوائر قرار. قد تتغيّر الإدارة ولكن الملفات تبقى. ولعلّ أبرزها ملفّ “حزب الله” وإيران. إذا ذهب ترامب إلى بيته فإنّ هذا الملف سيبقى في البيت الأبيض.