كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
اليوم تنقضي ثلاثة أشهر على استقالة حكومة الرئيس حسان دياب، فيما لا آمال بتأليف وشيك لحكومة الرئيس سعد الحريري. عوض أن تستعجله ـ كما راهن البعض ـ أتت العقوبات على النائب جبران باسيل لإدخال التأليف في كهف الانتظار.
في المدة الفاصلة ما بين استقالة حكومة الرئيس حسان دياب في 10 آب واليوم، أهدر الرئيس المكلف السلف مصطفى أديب 27 يوماً، والرئيس المكلف الخلف 19 يوماً حتى الآن، بينهما 47 يوماً ريثما يعيّن موعد الاستشارات النيابية الملزمة. ضاع 93 يوماً في جهود تأليف حكومة لم يكن ينقص تأليفها شيء. لا تحتاج الى بيان وزاري بعدما تعهّد الرئيسان المكلفان المتتاليان باعتماد المبادرة الفرنسية بنوده، وكانت في ذروة زخمها. وزراؤها اختصاصيون. مصغرة. تنصرف الى إصلاحات بنيوية. ذات مهمة محددة ستة أشهر. كلاهما، أديب والحريري، التزما بتأليفها خلال أسبوعين حداً اقصى، التزاماً بمهلة المبادرة نفسها وصاحبها الرئيس ايمانويل ماكرون. اذاً ذلك كله يضيع هباءً تدريجاً، قبل الوصول الى فرض الادارة الاميركية عقوبات على النائب جبران باسيل في 6 تشرين الثاني.
منذ فرض العقوبات، لا حدث داخلياً سوى تداعياتها. في الحسبان أنها تتجاوز الشخص المعني الى المعادلة الداخلية وتوازناتها الجديدة، المفترض أنها ستترتب على الإجراءات التي لحقت بباسيل، لكن برئيس الجمهورية ميشال عون الذي قارب ما حدث على أنه يستهدفه سياسياً هو أيضاً. في الحسبان أيضاً أن معاقبة باسيل تخرجه للفور من لعبة تأليف الحكومة، وتقيّد دوره السياسي، وتعطّل مقدرته على استخدام الفيتو المفتوح الذي منحه إياه الرئيس منذ مطلع العهد. سرعان ما بَانَ العكس تماماً. بصدور العقوبات دخل التأليف في جمود، وتوقفت الاتصالات بين الافرقاء، وتراجع معظمهم عن شروطه السابقة لها، سواء الذين ضمروا ترحيبهم بها كما الذين جهروا بغضبهم منها، بما في ذلك اجتماع عون والحريري البارحة. مرّ كأنه تفصيل صغير عادي، لم يعنِ شيئاً لأحد.
في مؤتمره الصحافي الاحد 8 تشرين الثاني، انتقل باسيل بالوقائع الاخيرة الى مكان بات معه تأليف حكومة حدثاً ثانوياً، مؤجّلاً، غير مُلحّ في الوقت الحاضر، الى حين جلاء تأثير تداعيات العقوبات على مجمل الصراع الداخلي. لم يعد للمبادرة الفرنسية أي مكان. كذلك الامر بالنسبة الى مواصفات حكومة إنقاذ الاقتصاد. لعل أبرز معاني هذا الانتقال، اتخاذ باسيل موقفين متلازمين رسماً ـ أو حاولا ـ ملامح المرحلة المقبلة: أولهما خيار استمرار تحالفه مع حزب الله وربط مصيره بمصيره، وثانيهما نعي الحكومة بدفن كل المواصفات التي رافقت مساعي تأليفها مع أديب والحريري على السواء.
لم تقتصر الإشارات السلبية على هذين الموقفين فحسب. ثمة أخرى، من خلال مقاربة توقيتها، تفصح بدورها عن مرحلة متوترة في مدى قريب تتجاوز الاستحقاق الحكومي الى تحوّل العقوبات الى اكثر من عقاب لشخص، بل محاولة للتحكم في مسار الاحداث في البلاد. من هذه الاشارات:
1 ـ ظهور ملامح مواجهة حامية في الداخل، بدأت بإعادة النظر في مستوى تمثيل لبنان في مؤتمر النازحين السوريين في دمشق، بحيث يحل الوزير رمزي مشرفية محل السفير هناك سعد زخيا، المكلف في الاصل بتمثيل لبنان. لم يكن في إمكان حكومة الحريري ـ لو تألفت ـ اتخاذ قرار كهذا، نظراً الى استمرار الانقسام الداخلي من حول نظام الرئيس بشار الاسد، وتالياً محاولة استعادة تطبيع العلاقات السياسية بين البلدين، المقتصرة على جوانبها الأمنية والعسكرية حصراً. مثل هذا التعديل أول عناصر الردّ والمواجهة.
2 ـ مغادرة سفراء ثلاثة من الدول الرئيسية في مجلس التعاون الخليجي لبنان في وقت متقارب في الايام القليلة المنصرمة، هم سفراء السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت. سواء كانت هذه المغادرة مصادفة أم ناجمة عن قرار سياسي، الا أن توقيتها في حمأة الخلاف القائم بين واشنطن وبيروت، يجعلها ذات مغزى.
3 ـ رفعت العقوبات من مستوى الخلاف بين فريق لبناني هو التيار الوطني الحر ورئيسه وبين واشنطن على الموقف من حزب الله، الى مستوى أكثر تعقيداً أضحى رئيس الجمهورية معنياً به مباشرة. البعض المطلع على موقف الرئيس يعزو اليه اعتبار العقوبات «اعتداءً» عليه كونها طاولت أقرب مساعديه ومفاوضه الاول وممثله الرئيسي في المعادلة السياسية الداخلية، لكن ايضاً في مكانته كرئيس أكبر كتلة نيابية وأكبر كتلة مسيحية في البرلمان. هو أيضاً اعتداء على خيارات الرئيس وحزبه، لا على رئيس الحزب بغطاء الفساد.
تالياً قد لا يكون دقيقاً وشافياً الاعتقاد بأن الرسالة الاميركية الى باسيل، ومن خلاله الى عون، ستتوقف عند هذا الحد، دونما مواصلة الضغوط في المدة القصيرة المتبقية من ولاية الرئيس الاميركي دونالد ترامب. من الآن الى 20 كانون الثاني، موعد أداء خلفه الرئيس جون بايدن اليمين وتسلّم السلطة، أكثر من شهرين طويلين ثقيلين بالقرارات غير المتوقعة. ليس التصريح المفاجئ للسفيرة الاميركية دورثي شيا أمس رداً على باسيل، والدخول معه في سجال سيتواصل، وتلويحها بكشف أسرار مخفية، سوى حلقة في سلسلة تفاقم آثارها الانقسام الداخلي.
4 ـ يذهب البعض المطلع الى الاعتقاد ان الحكومة ـ ما لم يحصل تطور مفاجئ غير محسوب ـ لن تبصر النور قبل السنة الجديدة. وقد يطول الى آذار. بات السجال المثير للقلق حالياً ما عناه باسيل بتمسكه بتحالفه مع حزب الله وعدم تخليه عنه، اياً يكن رد الفعل الاميركي. هو موقف رئيس الجمهورية حتماً وايضاً. بذلك يضع نفسه ومصير حزبه ـ شأن حزب الله ـ في قلب الخيارات الاقليمية المقبلة: جزءاً لا يتجزأ من المواجهة الاميركية ـ الايرانية، وجزءاً لا يتجزأ من التسوية الاميركية ـ الايرانية.
5 ـ بات من الواضح ان الصراع بين الاميركيين وحزب الله بات مكشوفاً ومباشراً وبلا حواجز أو محرّمات. وصل الى ذقون قيادات الصف الاول. لم تعد العقوبات تتلهى برجال أعمال ومصرفيين وتجار وجمعيات وهيئات موزّعين في أنحاء العالم متهمين بتمويل حزب الله، بل دخلت الى قلب السلطة اللبنانية. بعد الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس في 8 ايلول بدعوى ارتباطهما بحزب الله ودعمه، مع أن كلاً منهما هو معاون رئيسي لرئيس تياره السياسي كالرئيس نبيه برّي والنائب السابق سليمان فرنجيه، أفصحت العقوبات الاخيرة على باسيل عن أنه لا سقف تقف تحته الادارة الاميركية في إصرارها على معاقبة المتعاونين مع حزب الله وحلفائه، وإن بقشرة الفساد السهلة الهضم. تدل هذه الاشارة على الحريري ايضاً، من غير أن يكون هو المعني بالذات، كي توحي اليه بالعمل على تفادي تأليف حكومة يشارك فيها حزب الله مباشرة او على نحو غير مباشر.
اختبأ هذا الموقف الاميركي وراء المبادرة الفرنسية في آب المنصرم من خلال تأييد حكومة اختصاصيين لا مكان فيها للاحزاب والقوى النافذة حالياً. بسقوط المبادرة تلك، أو قد تكون موشكة على السقوط، بات الاميركيون يُعرّفون مواقفهم بأنفسهم، رافضين أي سلطة إجرائية لحزب الله دور ظاهر أو خفي فيها. بذلك ترددت في الفترة الاخيرة، من باب إطلاق الاشاعة أو جس النبض، أسماء على صلة بالحريري من اللصيقين به في الوقت الحاضر كما آخرين إما ابتعدوا عنه أو أبعدهم هو، مرشحين لأن يكون ضحايا عقوبات مسمّاة على الرئيس المكلف.