كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يسود اعتقاد بأن وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، بشخصيته الصاخبة، هو الذي تكفَّل بإحداث الصدمات في الشرق الأوسط: الانسحاب من الاتفاق النووي والحرب الشرسة مع إيران و«جيوشها»، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، توسيع المستوطنات، والتطبيع بين إسرائيل ودولٍ في عمق المنظومة العربية. ولكن سيُفاجأ كثيرون بأنّ جو بايدن «الهادئ»، مرشَّح لأخذ الشرق الأوسط إلى تحوُّلات أكثر عمقاً، لأنّ ترامب مهَّد له الطريق.
كل عواصم الشرق الأوسط غارقة في التحليل: هل ما زال بايدن متمسِّكاً برؤيته القديمة للحلول في هذه المنطقة، والتي قاتل طويلاً للدفاع عنها وإقرارها؟
بالنسبة إلى الرئيس الجديد، رأس الاهتمامات في الشرق الأوسط هو إسرائيل. فالرجل معروف بأنّه واحد من أكثر المتحمسين للدفاع عن إسرائيل وضمان تفوُّقها. لكنه يحرص على احتفاظ الفلسطينيين بالحدّ الأدنى من الحضور ليتمكنوا من المشاركة في العملية السلمية. ولذلك، هو من الدعاة إلى قيام «الدولتين».
ولكن، الخطوات التي نفّذها ترامب (القدس والمستوطنات) أصبحت أمراً واقعاً. وثمة مَن يعتقد أنّ بايدن سيشجع الإسرائيليين على وقف التوسّع الاستيطاني، وسيحاول تخفيف غضب القيادة الفلسطينية وجذبها مجدّداً إلى الحوار، وأنّ هذا الأمر انعكس تجميداً للحوار الذي دار بين «فتح» و»حماس» في الأشهر الأخيرة.
أما في الملف الإيراني، فصحيح أنّ طهران ستبذل جهدها للعودة إلى اتفاق فيينا الذي أنجزته إدارة الرئيس باراك أوباما، عندما كان بايدن نائباً له، لكن هذا الأمر ليس مضموناً، لأنّ بايدن سيستفيد على الأرجح من حال الضغوط التي مارستها إدارة ترامب لإنتاج تسوية مع إيران أكثر ضماناً لوقف البرنامج النووي والتمدُّد بالسلاح عبر الأذرع في المنطقة، وصولاً إلى شاطئ المتوسط ومصادر الغاز وخطوطه إلى أوروبا والحدود مع إسرائيل.
وطبيعي أن تكون لأي خطوة أميركية جديدة مع طهران تداعياتها على المستوى الشرق أوسطي ككل، أي إسرائيل والعرب، ولاسيما الخليج. وتبدو لافتة مواقف بايدن المتعلقة بشؤون اليمن والسعودية. وثمة من يتوقع تهدئة على الجبهة اليمنية في الفترة المقبلة.
ويعتقد البعض، أنّ بايدن ربما يبدّل في النهج المتّبع في الخليج، لكن آخرين يميلون إلى الاقتناع بأنّه سيحافظ على أعلى مستوى من التحالف مع دول الخليج العربي، وسيتصرف على غرار ترامب الذي «نسِيَ» كل الانتقادات التي وجّهها إلى دول خليجية خلال حملته الانتخابية. فكانت خطوته الخارجية الأولى، بعد الفوز، جولة خليجية أبرم خلالها اتفاقات بـ450 مليار دولار.
لكن الأهم، في اعتقاد الخبراء، هو رؤية بايدن إلى كيانات الشرق الأوسط والأزمات التي تعصف بها. وهذه الرؤية هي ثمرة معايشة عميقة للأزمات الشرق أوسطية على مدى 3 عقود على الأقل. وهو في هذا يختلف عن ترامب الذي جاء إلى الحكم من دون تجربةٍ مُعاشةٍ مع الملفات الخارجية، ومنها الشرق الأوسط.
بدأ بايدن يشغل مقعداً في مجلس الشيوخ، وفي شكل مستمر، العام 1973، أي إنّه اكتسب مراساً سياسياً عمره 47 عاماً. وكان على مدى 12 عاماً رئيساً للجنة العلاقات الخارجية أو أحد أبرز أركانها.
وفي العام 2007، في المرحلة التي تلت إسقاط نظام الرئيس صدام حسين والدخول العسكري الأميركي إلى العراق بقيادة الرئيس جورج بوش، أتيح لبايدن من موقعه في رئاسة اللجنة الخارجية أن يطلق تصوراً بارزاً للحل في العراق وسائر كيانات المنطقة.
الجدير ذكره، أنّ المراكز التي يتمّ فيها تكوين القرار المتعلق بالشؤون الخارجية متعدّدة، من الرئاسة إلى وزارة الخارجية إلى لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ. ومن خلال موقعه، عارض بايدن زيادة حجم القوات الأميركية في العراق، وطرح حلاً يعتبره مناسباً لدوام الاستقرار في هذا البلد، ما يسمح بانسحاب الأميركيين وفق ضمانات معينة.
يعتقد بعض المطلعين أنّ تفكير بايدن الأساسي كان يقضي بتقسيم العراق إلى 3 دول: شيعية في الجنوب، سنّية في الوسط وكردية في الشمال. ولكن، تحت وطأة الاعتراضات، قام بتسويق خطةٍ ذات سقفٍ أدنى، وتقضي بتقسيم العراق إلى 3 مناطق أو كونفدراليات لا دول مستقلة. وجرت آنذاك محاولة لإمرار الخطة على أعضاء مجلس الأمن ليتمّ تبنّيها.
تصدّت إيران للخطة بقوة، من خلال حلفائها على الساحة العراقية. فهي تعتبر أنّ بلداً على حدودها، غالبية شعبه من الشيعة، يجب أن يدور بكامله في محورها. والضمانة لذلك هي بقاؤه موحّداً بسلطة مركزية أو لامركزية ضعيفة.
في الموازاة، ظهر في الإدارة الأميركية، كما بين السنّة العراقيين، مَن يخشى نشوء دويلة شيعية في الجنوب، تكون مطيَّة سهلة لإيران كي تُطْبِق السيطرة على كامل العراق، لأنّ المنطقتين السنّية والكردية ستكونان ضعيفتين أمامها
بقي الأكراد يطمحون إلى تحقيق هذا الهدف. واليوم، بعد انتخاب بايدن رئيساً، يبرز في الأوساط الكردية تفاؤل بأنّ الرجل سيعود إلى مشروعه، وبأنّ أولى توجّهاته في العراق ستكون إقناع القوى هناك، وطهران في الدرجة الأولى، بقيام الكيانات الصافية العرق والمذهب.
طبعاً، إسرائيل تشجّع هذا الخيار. وفي أي حال، الاسرائيليون استنفدوا الشق الذي يريدونه من ترامب، وهم الآن يحتاجون إلى دورِ بايدن. ولا مشكلة عندهم لا بالجمهوري ولا بالديموقراطي في البيت الأبيض.
في اعتقاد بعض الباحثين، أنّ إيران ربما تجد نفسها مستفيدة من الكيانات، خصوصاً إذا وصلت إلى نقطة فقدان السيطرة على الكيانات التي تتحكّم بها اليوم، ولاسيما سوريا، صلة الوصل الأساسية بين العراق ولبنان.
عند هذه النقطة يسأل كثيرون: ماذا عن لبنان؟
يخشى العالمون، عندما يبلغ الاهتراء درجاته القصوى، بعد أسابيع أو أشهر، أن يصبح «التفكّك الحراري» خياراً حتمياً، ولا يبقى من الدولة «المركزية» (المزعومة) حجر على حجر، فيقف «كل ديك على مزبلة» ويقول: أنا هنا!
في رأي هؤلاء، مبرِّرات الشيعة جاهزة، قبل سواهم: «الدفاع عن أرضٍ أو مياه محتلة». ومعهم كل المستلزمات: السلاح والتنظيم والتمويل وحرّية اتخاذ القرار. وأما الباقون فـ«يدبِّرون حالَهم» في ما بعد.