كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
أكد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل المؤكّد في كلمته، رداً على العقوبات الأميركية، بأنّ تحالفه مع»حزب الله» هو مجرد تحالف سلطوي لا يرتكز على اية مبادئ مشتركة، ولم يتردد في سَرد نقاط الخلاف الاستراتيجية التي يفترض ان تضع التيار والحزب في موقع النقيض لا الحليف.
قال باسيل: «نحن نختلف مع «حزب الله» حول أمور أساسية وعقائدية، مثل السلام في المنطقة ووجود إسرائيل»، و»قلتُ أمامهم في كنيسة مار مخايل في ذكرى وثيقة التفاهم في شباط 2019: على الحزب ان يفهم انّ التيار لا يملك نفس الفكر ونفس الخطاب عن الحزب، وحقيقة فكرنا انّ لبنان دولة مدنيّة، لا إسلاميّة ولا مسيحيّة، دولة تحبّ ان تعيش في استقرار داخلي قائم على التوافق وسلام خارجي قائم على الحقوق والعدالة والقانون الدولي. فللعرب الحق بالأرض، ولفلسطين الحق بالدولة، ولإسرائيل الحق بالأمن».
وأكد باسيل انّ «خلافاتنا مع الحزب على الملفات الداخلية والإصلاحات كثيرة»، وقال: «نشرح للأميركيين انّ إضعاف التيار لرفع الغطاء عن الحزب لن يُضعف الحزب، بل سيعزله وسيضطرّه الى الدفاع عن نفسه وسينتصر. وسيكون هناك مشروع فتنة وحرب داخليّة في لبنان بين الشيعة والسنة، ومَن تسوّله نفسه من المسيحيين للتآمر والمشاركة فيها، وسيدفع المسيحيّون ثمنها الأكبر بالهجرة الكثيفة؛ وهذا مشروع الفوضى ما بيجوز إنّو يتكرّر بلبنان، لأنّ حصوله في العراق أدّى الى هجرة المسيحيين، وحصوله في سوريا أدّى الى هجرتهم».
فالخلاصة الأولية لكلام باسيل انّ تحالفه مع الحزب هو تحالف مصلحي لا مبدئي، ولم يصل لبنان إلى ما وصل إليه من انهيارات وطنية ومالية وقيمية إلّا بسبب هذا النمط من الممارسة السياسية الذي يُبَدّي مصلحته على حساب البلد وقناعاته المبدئية، إذ كيف يمكن ان يتحالف فريق مع آخر يختلف معه في النظرة إلى البلد ودوره؟ وماذا يمكن ان يقال عن تحالف من هذا النوع؟ وكيف يمكن توصيف هذا النموذج من التحالفات بين متناقضين غير كونها وصولية ومصلحية يأخذ فيها الحزب من باسيل الغطاء المسيحي ليمنحه في المقابل النفوذ والسلطة؟
فجوهر الخلاف مع «حزب الله» يكمن في مسألتين أساسيتين يختلف باسيل فيهما معه أيضاً وفق ما أكّد عليه: المسألة الأولى تتعلق بمدنية الدولة التي يريدها الحزب إسلامية لا مدنية، وهو واضح على هذا المستوى ولو أنه يسعى لأسلمة لبنان عن طريق الإقناع والحوار لا الإلزام والإجبار، ولا يَكفّ الشيخ نعيم قاسم في كل مناسبة عن تأكيد تَمسّك الحزب بهذا التوجه الذي يضعه في الخانة الإيمانية والعقائدية.
والخلاف حول هذا العنوان ليس تفصيلاً لـ3 أسباب أساسية: لكونه يتناقض مع الدستور اللبناني، ولكونه يلغي علّة وجود لبنان كوطن للتعايش والتفاعل بين المسيحيين والمسلمين في سياق ميثاق عيش مشترك، ولكونه ينقل لبنان من دولة مدنية لا تستمد تشريعاتها من النصوص الدينية ويتساوى فيها الجميع تحت القانون، إلى دولة دينية الحكم فيها لولاية الفقيه وتتعامل مع المواطنين من الديانات الأخرى وفق ما تقتضيه الشريعة.
وعلى رغم بروز تيارات منذ إعلان لبنان الكبير تدعو إلى إلحاق لبنان بسوريا او ان يكون جزءاً من قومية عربية، إلّا انّ الخط السني الأساسي تغلّب على كل تلك الدعوات، كما انّ الخط المسيحي التاريخي شكّل الرافعة للروحية الميثاقية التي تأسّس عليها لبنان، فيما «حزب الله»، الذي يشكّل اليوم بتمثيله الخط الشيعي الأساسي، يريد تغيير طبيعة لبنان، أي الانقلاب على الخط المسيحي التاريخي، هذا الخط الذي ينقلب عليه باسيل من خلال تحالفه مع حزب لا يؤمن بدور لبنان وطبيعته التأسيسية.
وأما المسألة الخلافية الثانية التي أقرّ باسيل باختلافه فيها مع الحزب فتتعلّق بدور لبنان، بين «دولة تحبّ ان تعيش في سلام خارجي قائم على الحقوق والعدالة والقانون الدولي»، وفق توصيف باسيل، وبين دولة لا تعترف بالقانون الدولي وعلّة وجودها الحرب لا السلام، فيما السبب الأساس والرئيس للحرب اللبنانية لم يكن لاعتبارات سلطوية-طائفية، إنما بفِعل الخلاف حول دور لبنان، بين من يريده رأس حربة في حروب الآخرين، وبين من يريد تحييده عن كل الآخرين حفاظاً على استقراره الذي لا يمكن ان يتأمّن سوى بتحييده تجسيداً لتركيبته التعددية.
فجوهر الخلاف مع «حزب الله» اليوم يكمن في نظرته إلى دور لبنان الذي يريده ساحة نفوذ متقدمة لطهران ترتكز على الحروب المفتوحة التي لا يتوانى فيها الحزب بالقتال حيث يدعوه الواجب الديني، من البوسنة والهرسك، إلى سوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول. وبالتالي، كيف يمكن التحالف مع حزب يريد استبدال الدولة المدنية بدولة دينية، ويسعى إلى تحويل لبنان من دولة سلام واستقرار، إلى دولة حروب ولا استقرار؟
وإقرار باسيل بالخلاف العقائدي مع الحزب يفترض ان يضعه في موقع النقيض معه لا الحليف، وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على أزمة وَعي سياسي لدى الشريحة المؤيدة للتوجّه العوني-الباسيلي، فكيف يمكن ان يبرر لقواعده تحالفاً بين مشروعين مختلفين جذريّاً؟ وكيف يقبل هذا الجمهور أساساً بتحالف يتناقض مع ثوابته ومسلماته وتوجهاته؟ والتفسير الوحيد على هذا المستوى مثلّث الأضلع: قواعد مخدَرة، غير مسيّسة ومصلحية التوجه. وإذا كان لقيادة التيار مصلحة في تحالف مخالف للطبيعة من هذا النوع، فعلى قواعد التيار رفضه لا القبول به، وخلاف ذلك يعني ضرورة تكثيف العمل على الوعي السياسي الذي وحده يعيد تصويب الأمور، ومن دون هذا الوعي لا أمل بخلاص لبنان، حيث انّ قواعد التحالف في بلد مثل لبنان، ما زال الخلاف بين مكوّناته من طبيعة وجودية، يجب ان تكون مبنية على قواعد استراتيجية، وما دون ذلك يعني تَبدية النفوذ على المصلحة اللبنانية العليا.
وأمّا لجهة قوله انّ «رفع الغطاء المسيحي (العوني) عن الحزب لن يُضعفه، بل سيعزله ويضطرّه الى الدفاع عن نفسه، وسيكون هناك مشروع فتنة بين الشيعة والسنة، وسيدفع المسيحيّون ثمنها الأكبر بالهجرة الكثيفة»، فهذا التبرير هو في غير محلّه، فضلاً عن كونه غير مُقنع بتصويره الهدف من تحالفه مع الحزب وتغطيته مسيحياً منع الفتنة السنية-الشيعية التي تَرتدّ على المسيحيين، فمن قال انّ السنة والشيعة في وارد الانزلاق إلى الفتنة؟ وهو يصوِّر نفسه بأنه الضنين على السنة والشيعة والمسيحيين في إهانة إلى حليفه الشيعي بالدرجة الأولى، وكأنّ القيادات السياسية السنية والشيعية تريد الفتنة ومن خلال وثيقة «مار مخايل» قضى على هذه الفتنة، ولماذا فكّ التحالف مع «القوات» و»المستقبل» لا يؤدي إلى فتنة، فيما فكّه مع الحزب يؤدي إلى فتنة؟ وهل يقصد انّ الحزب على استعداد لاستخدام سلاحه في الداخل؟ وانّ التحالف معه يجعله مُجبَر على التخلّي عن هذا الاحتمال في إدانة مباشرة لحليفه؟ وهل هناك من يثير الخوف فيُحافظ على التحالف معه، ومن لا يثير الخوف فيتم فك التحالف معه؟ وهل يعقل ان يقنع اللبنانيين أنّ تحالفه مع الحزب المخالف لقناعاته سببه الأوحد منع الفتنة؟
فما قاله باسيل هو برسم الرأي العام اللبناني لجهة تأكيده على خلافه على القضايا الاستراتيجية والجوهرية مع «حزب الله»، وانّ تحالفه مع الحزب لا يخرج عن سياق تبادل المصالح بين فريق يؤمّن الغطاء للسلاح والدور، وفريق يوفِّر السلطة والنفوذ، وهذه إدانة بلسان باسيل لكل فكرة هذا التحالف، والإدانة الأكبر للتيار نفسه الذي يرتبط بتحالف وثيق مع حزب يختلف معه استراتيجياً، فيما أبسط الإيمان ان يكون خارج اي تحالف من هذا النوع.
وبين واشنطن وحارة حريك، يختار باسيل حُكماً الثانية التي ما زالت قادرة لجملة اعتبارات على إبقاء مفتاح شغور موقع الرئاسة الأولى بيده ليكون ممراً إلى بعبدا، بعدما أصبحت خلافته للرئيس ميشال عون مستحيلة.